زمان خالص وفي كل يوم بعد انتهاء الحصص في الصف الأول بمدرسة السكة حديد الابتدائية بمدينة كوستي، كان أفراد شلتنا الصغيرة يعبرون خطوط السكة حديد غير عابئين بمخاطر القطارات الرائحة والغادية وغير مكترثين بالضجيج المستمر الذي يحدثه الوابور الذي كان يُسمى صعلوق المحطة والذي كان يلف ويدور ويناور ويتقدم وينسحب في جميع الاتجاهات وكأنه مجنون يبحث باستمرار عن شيء معدوم لن يجده أبداً، كنا نذهب للسباحة في النيل الابيض ، كنا نسميه البحر ، وبحكم صغر سني ، الذي لم يتجاوز الثامنة، لم أكن أجيد السباحة آنذاك (كنتا اجلبغ ساي)! ذات يوم وبينما كان الأطفال يسبحون في طرف البحر، قمت أنا بمجازفة خطيرة دون أن أشعر بذلك ، ركبت طوف طرطور وسرحت وشيئاً فشيئاً توغل طوف الطرور داخل البحر، فجأة انتبهت وشعرت بالخطر والفزع حاولت الرجوع إلى الشاطيء والانضمام إلى شلة الصغار ، افلت طوف الطرور من بين يدي وعندها غرقت في البحر وغصت إلى الأعماق كالحجر بعد أن صعدت للسطح مرتين صارخاً ورافعاً يدي الصغيرتين طلباً للنجدة التي كانت مستحيلة فقبل نزولنا إلى البحر لم يكن هناك أي شخص راشد على الشاطيء ، لن انسى ما حييت لحظات الاحتضار في أعماق النيل الأبيض ، بعكس ما يتصور من لم يمر بتجربة الوقوف على حافة الموت والشعور ببدايات الموت ، كانت لحظات الاحتضار ممتعة إلى أقصى درجة ، لم أشعر بأي ألم أبداً بل كنت أشعر بارتياح شديد وتركيز عقلي عجيب، كانت هناك أضواء ملونة عجيبة هابطة من السماء إلى الأرض، كنت أتامل باستمتاع شديد صوراً على شاشات كبيرة ظهر فيها وجه أمي ووجه أختي، فجأة شعرت بانزعاج بالغ حينما قبضتني يد قوية وانتشلتني من أعماق البحر، لقد جاء رجل من اللامكان بعد أن سمع صراخ الاطفال وانقذني من الموت غرقاً، عندما أخرجني الرجل والقى بي على الشاطيّ، كان الماء يخرج من فمى وانفي ، التفت شلة الأطفال حول جسدي المنهك الطريح على الارض، أذكر أن أحد الأطفال قال لي ساخراً وشامتاً: ود الهرمة ، تاني تجي البحر؟! قالت له بصعوبة: ايوه بجي! وفي اليوم التالي كنت أول الواصلين إلى البحر! كنت اخد علقة نضيفة من والدي كل يوم فقد كان أثر حمام البحر دليلاً دامغاً على مخالفتي لأمره بعدم الذهاب إلى البحر ، لكن العلقة اليومية الساخنة والتهديد بإدخالي الاصلاحية لم ينجحا مطلقاً في منعي من الذهاب والعوم في البحر كل يوم! بعد عدة سنوات وبعد أن تعلمت السباحة وأصبحت سباحاً ماهراً وصياداً متمرساً ، أصبح والدي يقول لي (بقصد التخلص من مشاكلي في البيت في أيام العطلات) : يا ولد شيل جباداتك وامشي اصطاد لينا سمك من البحر! فيصل الدابي/المحامي عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.