السؤال مكلف جداً لدى دعاة التكفير، فهو يفتح الباب لغيرهم ويكشف عن خلل بنيوي في دعوتهم..!! كان أن تعرض بن رشد للتكفير والطرد والإمام أحمد بن حنبل للضرب والسجن.. والاثنان طرفا نقيض..! اجتزاء معاني من خارج سياق الآيات القرآنية يفقد النص زمانه وبالتالي يسهل توظيفه..! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. أعلينا الانشغال بالرد على دعاة التكفير؟ والقول إن دعوتهم مكشوفة عبر تصفحنا الدرس التاريخي، وأنهم ليسوا بنفس جديد في رئة معرفتنا العربية الإسلامية، بل هم امتداد لسلسة طويلة هي التجلي الخشن للعلاقة بين المتدينين والنص القرآني، وكيف أنه من السهولة بمكان مقارعتهم الحجة بالحجة، والنص بالنص، لكننا لا نرى في ذلك حلاً، فالتكفير داخل حظيرة التراث الإسلامي يندرج تحت ما يمكن وصفه بالتحالف غير المقدس بين (العقيدة والغنيمة)، وإذا هممنا بإيجاد تفسير آخر للحالة التكفيرية في التراث والواقع، سيعجزنا الوصول إلى نقطة موصوفة بالحسم، لذا فمن الواجب مقاربة المسألة من زاوية أخرى، وهي العلاقة الانتهازية بين العقيدة (ليس المقصود الدين كدين، بل حالة التدين محكومة بجماعة لها مبادئها وقواعد سيرها فيه) والغنيمة (التي هي الفئ) وعصرياً هي كراسي السلطة، ونود في هذه المساحة أن أقف عند الأسباب الجوهرية لوجود حالة تدينية عصية على الاستجابة والتواصل، وتدين آخر حر وموضوعه الذات والعلاقة الشخصية بين الرب ونية العبد. إن التحالف المقصود بين (العقيدة والغنيمة) يجد شاهده الأول في تأسيس الدولة الأموية، ذلك أن الأمويون كانوا يعلمون تماماً أنه لا كسبهم الديني، أو مكانتهم في قلوب عامة المسلمين تؤهلهم لتولي الحكم، لذا عمدوا إلى مستوى آخر من توظيف الظاهرة الدينية، وهي أن خيروا الناس بين وصمهم بالخروج عن الدين، وبين القبول بحكمهم، فظهر سؤال مرتكب الكبيرة، أهو مؤمن أم كافر؟ ومرتكب الكبيرة يقصد به من اتهم بالتسبب في مقتل سيدنا عثمان بن عفان وحارب معاوية بن أبي سفيان رضوان الله عليهما، إنهم شيعة وأصحاب الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لأنه رؤي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عماراً (المقصود عمار بن ياسر الصحابي الجليل) تقتله الفئة الباغية، والرجل في حرب الإمام علي ومعاوية كان في التسعين من عمره يقاتل بجسارة منقطعة النظير، إلى أن قتله بعض جند معاوية، فجزع جنده وذَّكروه بالحديث النبوي الشريف، فخرج عليهم بالقول إن عمار قتلوه الذي أخرجوه، وهو يعني أن الفئة الباغية هي جيش الإمام علي، وهذا السؤال كانت الإجابة عليه تحدد موقفك الديني وبالتالي السياسي، فإن كنت مؤمناً فأنت مؤيداً لتكفير سيدنا علي وأصحابه، والوقوف إلى جانب معسكر معاوية ويزيد ابنه، وإن كنت كافراً فأنت من أنصار علي وشيعته. لكن لنبدأ ونقول إن العقل السياسي تحكمه محددات أجملها الراحل المفكر محمد عابد الجابري في كتابه القيم (العقل السياسي العربي 1990م) ب(القبيلة – الغنيمة – العقيدة)، والقبيلة يقصد بها الدور الذي تلعبه «القرابة» أو بعبارة بن خلدون (العصبية)، ونعبر عنه اليوم ب"العشائرية"، أي طريقة الحكم التي تعتمد على ذي القربى، أياً كانت، يحدث هذا في العصبيات القبلية والحزبية والأيديولوجية» (وأيضاً بين التحالف الموجود بين السلفية وبعض دوائر المجتمع السياسي)، العقل السياسي ص 48، حيث يكون الانتماء إلى المدينة، الجهة، أو الطائفة والحزب، هو وحده الذي يتعين به (الأنا) و(الآخر) في ميدان الحكم والسياسة وبالتالي من هو داخل حظيرة الدين ومن هو خارجه، ومحدد آخر الغنيمة: وهو الدور الذي يلعبه العامل الاقتصادي، ولعبه في تاريخنا تحت مسميات (الخراج) و(الريع)، ويقصد كمحدد يؤثر في المسار السياسي للعقل العربي، هو ليس فقط طريقة جمع هذا الخراج بل كيفية التصرف فيه، والذي يجعل من (العطايا) منتجة للعقلية (الريعية)، ومحدد ثالث هو العقيدة: ويقصد العقيدة على ما هي عليه من سيادة للاعتقاد، وهو هنا يرمي للتمذهب به (التدين بما هو حالة)، ومثاله في الصراع الذي دار بين الصحابة والمسلمين من بعدهم، وكيف ارتبط بنوع معين من التدين. فماذا يفعل دعاة التكفير إنهم يمثلون الجانب العقدي في صورته المدرسية، أي المرتبطة بدوافع الحفاظ على حياض الدين، ولذا فالاقتراب من هرم العقيدة المدرسية، سيهدد مركزيتهم التي يستند عليها وجودهم، لذا فالسؤال مكلف جداً لدى دعاة التكفير، لأنه يفتح الباب أمام غيرهم، وينازعهم مكانتهم، ويكشف عن ضعف حاستهم العلمية، والسبب الآخر أنه سيغري الصامتين للخوض في طرح الأسئلة عارية أمام حقائق الوجود الاجتماعي والسياسي، إذن التكفيري هو (موظف) لدى سلطة حماية الدين، يحدث ذلك على الرغم من أن هؤلاء الدعاة يقرأون قول الله عز وجل في محكم تنزيله في سورة الغاشية: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ {21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ {22} إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ {23} فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ {24} إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ {25} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ {26})، ويعلمون أن دورهم في حماية الدين وإن كان محموداً إلا أنه يستخدم النصوص بطريقة اجتزائية كقولهم: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44} سورة المائدة، والاجتزاء الذي أعنيه أن هذه الآية مقتطعة من سياقها الموضوعي، ولنقرأها كاملة {43} إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44}، والمشكلة الأساسية في تقطيع النص هي، أن السياق وحدة زمانية كاملة، وأي محاولة لاجتزاء معنى منها، يفقد المعاني زمانيتها وبالتالي وجودها اللغوي، لأن النص وحدة معجمية، وانتقاء معاني من سلسلة الكلمات المتراصة في السياق، سيجعل النص مبتور ويسهل بالتالي توظيفه لصالح أي جماعة تريد وصف الفعل الاجتماعي محل الجدل بأنه حُكم بغير ما أنزل الله. حسناً، كيف يوظف دعاة التكفير العقيدة والغنيمة، يوظفون العقيدة عبر الإدعاء المطلق بأنهم حماتها، رغم أن الله سبحانه وتعالى لم يسمح لأحد أن يدعي حماية الدين والمتدينين من الخروج عن دائرة الإيمان، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ {99} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ {100}) سورة يونس، والمتمعن في سياق الآيات السابقة سيفهم أن حالة الإيمان هي حالة خاصة، ومرتبطة بالعلاقة المباشرة بين الله وعبده، وليس لأحد أن يتدخل فيما بينها، إلا من يريد تطبيق النموذج المسيحي في القرون الوسطى، الذي يضع للناس شروط إيمانهم وبالتالي يحدد من المؤمن من الكافر، لأن الكفر حالة ذاتية وصحيح أنه يمكن لأحد أن ينطق بأقوال تشوش على العباد، كقول الحلاج مثلاً : (رَأَيتُ رَبّي بِعَينِ قَلبي فَقُلتُ مَن أَنتَ قالَ أَنتَ)، ولكن وعلى ما في هذا البيت من جمال لغة وحسن توظيف للتشبيه، إلا أنه يمكن أن يسمح بدخول دعاة التكفير للنيل من طبيعة التأويل المقصود، لأن شرعية وجود معرفة مطلقة بحقيقة النص ليست فعل قانوني بقدر ما هي قصدية (Intention)، والقصدية فعل متراجع على أقل تقدير، فكيف لقارئ أن يتوجه نحو مكتوب غيره بإرادته هو (وهي استباقية مفاجأة) ليثير غرائز النص المكتوب تجاه حقيقة معارفه، وكأن المجال الدلالي لسياق النص لا يكفيه! وأن يأتي أحد ويقدم اجتهاده وهو مقر في داخل نفسه بأن الله حق وواحد والنبي محمد صلوات الله وسلامه عليه أتى بالحق من عند ربه، فإن محاولة تكفيره، لا يمكن تفسيرها إلا بالقول إن للمسألة بعد آخر؛ قلنا هو التحالف بين دعاة الحفاظ على الدين، والممثلون للسلطان الديني في السلطة، وجوهر هذا التحالف أن من يقول بأنه فقط المسئول عن تحديد إيمان الناس من كفرهم، يفعل ذلك ليس لأجل حماية الدين بل لأجل المهمة التي انتدب نفسه لها، وهي في عرفه (حماية العقيدة من مفسديها)، وليقوم بهذا الدور سيحتاج إلى سند اجتماعي أو سياسي، اجتماعياً سيستفيد من الجماهير المجانية ، وسياسياً من المتعاطفين أو لنقل المستفيدين من وجود كابحات عقدية، تستند إلى جماهيرية مشكوك في ولائها، بسبب أن طبيعة التدين السوداني متسامحة وموصوفة بالتساهل والبساطة، طيب.. يفعل دعاة التكفير أفعالاً يجدون لها سند تأويلي في القرآن، وذلك عبر اجتزائهم النص القرأني من وحدته اللغوية، ليتخلصوا من زمانيته الحاكمة، أليست أسباب النزول بوابة لتفسير آيات القرآن الكريم؟ فالعقيدة تحتاج لممثلين يكملون البناء الاجتماعي والتاريخي لها، وقديماً حينما كفر الوليد بن رشد بسبب ما سمي بأراء ضالة ومضلة، كان السبب سياسياً وليس دينياً، فالرجل ظل فقيهاً مالكياً وقاضي قضاة قرطبة لفترات طويلة، وإيمانه ليس محل شكوك الخليفة يعقوب ولا أبناء مدينته، ولكن الخليفة كان يخوض حرباً ضد أعدائه من الأسبان، وليحشد الناس ساومه علماء يحقدون على أبي الوليد بن رشد للمكانة التي نالها والحظوة التي تشمله من الخليفة والناس، ساوموه على تكفير وطرد بن رشد من المدينة، مقابل أن يجمعوا له الناس في جيشه، ولأنهم لا يملكون شائبة اجتماعية واحدة على الرجل دخلوا إليه عبر القول بفساد عقيدته، وراحوا يبحثون عن نصوص فسرها عن الفليسوف اليوناني أرسطو وجدوا فيها ما مكنهم من تكفير الرجل، أيعقل أن يكون قاضي قضاة المذهب المالكي في قرطبة كافراً، وهو يفتي استناداً على مذهب الإمام مالك؟ والغريب كذلك أن الإمام أحمد بن حنبل تعرض لمحنة تكفير بسبب رفضه القول بخلق القرآن، والسبب سياسي أيضاً، لأن الرجل كان برفضه منطق خلق القرآن يهدد مشروعية وجود الدولة في زمانها، المشروعية السياسية المستندة على فرض القول بخلق القرآن على جميع أئمة المساجد والمتحدثين وسط الجماهير، ولأن الإمام أحمد بن حنبل برفضه القول إن القرآن مخلوق يضعف من سلطة الدولة في حمل الناس على الرأي الأيديولوجي في الدين وبالتالي في السياسة الحكمية للدولة، ذلك لأن قضية خلق القرآن قضية فلسفية لا يمكن معها تكفير أحد أو حتى التشكيك في عقيدته من الناحية المبدئية.. ليأتي بعد ذلك الخليفة العباسي المتوكل على الله ليمنع القول بخلق القرآن ويناصر أهل السنة، وليأتي من يقول بخلق القرآن فيكون كافراً وخارجاً عن إرادة الدولة وأٌسس حكمها السياسي والقانوني. إذن يتغير ممثلو التكفير بتغير السلطة والمتحالفين من حراس الدين والتراث، ولنكون أكثر أمانة فإن السلطة القائمة اليوم لا تناصر التكفير أبداً، بل وهي مستندة على مرجعية الحركة الإسلامية السودانية، التي لا تقر بالتكفير بل تعتمد نسخة سودانية تحمل ملامح التصوف الشعبي، وفي واقعنا اليوم يجد السلفيون المتشددون طريقهم لبث فقه جديد، فقه يستند على مرجعية تاريخية لا تمت للسودان بصلة، إنهم بصدد إعادة عجلة التاريخ السياسي للدولة الإسلامية إلى مربع (الفتنة الكبرى) والتي خرج منها المسلمون وفي وعيهم أن كل شيء يسكت عنه في سبيل الحفاظ على وحدة المسلمين، ولذا فقد تم توحيد الفتوى وشخصنتها، ما يعد مخالفة صريحة للنص القرآني إذا يقول عز وجل : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ {7}، لكن والحال كذلك فإن الأمة الإسلامية أصلاً ليست متوحدة إلا في أفكار ودعاوى حزب التحرير، لذا فإن القول بالحفاظ على نوع محدد من الدين سببه الخوف من تشتت بناء الأمة وإضعاف عقيدة أبنائها؛ قول مردود.. (نواصل.. في قادم المقال عن – كيف يقرأ التكفيري القرآن؟!)