لم يكن أحد من المتواجدين جوار قصر الشباب بأم درمان يتوقع في أسوأ كوابيسه أن ينتهي به الأمر بتلك الدرراما الرهيبة, رغم إعلان الشرطة مساء أمس الأول أن التظاهرة غير قانونية.. عند الثامنة إلا ربعاً كنت وزميلي محمد عبد الحكم نقف بالقرب من السلاح الطبي ترقباً للمسيرة التي حدد لها تمام التاسعة, وجدنا عدداً قليلاً من الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء والقنوات الفضائية قد سبقونا, مكثنا لبعض الوقت نحتسي القهوة ونحلل في مآلات يومنا هذا, بعد قليل بدأ تقاطر عضوية الأحزاب على ذات المنطقة, علمنا ممن كانوا باتجاه المجلس الوطني أن باقان وعرمان وعبد الله تيه تم اعتقالهم, رددت في سري "الله يستر".. وقفنا قبالة المجلس وبدأنا نلحظ تزايد أعداد القادمين من أجل التظاهر, كان هناك شخص يرتدي زياً مدنياً ويمنع سيارات المواصلات أن تقف, الشيئ الغريب أن رجال المرور كانوا يقفون بالقرب من مطلع الكبري؟ اقتربت إحدى الحافلات الصغيرة "هايس" من بوابة قصر الشباب بها ثلاثة أشخاص فقط لكن تعرض لهم ذات الشخص.. المفارقة كانت في وجود شخص بالسيارة يخرج بطاقته موضحاً أن هذه السيارة تتبع لجهة رسمية.. عند التاسعة بدأ رجال الشرطة يطلبون بطريقة لطيفة من بعض قيادات الأحزاب أن يتجهوا الى شارع بانت وهم يرددون "والله نحن ماعندنا معاكم مشكلة, بس في تعليمات بعدم تواجد أي شخص هنا", تابعنا تحرك الجمهور الى الاتجاه الآخر, كنت أسمع بعض المهاتفات عبر الجولات تقول إن الشوارع تم إغلاقها ولا أمل في حضور عدد كبير ممن كانوا سيشتركون في التظاهرة, بالفعل كانت الطرقات التي تؤدي الى شارع الموردة شبه مغلقة وحركة السير عبرها بطيئة جداً.. أيضاً قال آخر إنه يتوجب الذهاب الى ميدان الخليفة لأن به تجمعاً كبيراً تم احتجازه عبر سيارات الشرطة التي تكاثف وجودها في مدينة أم درمان.. تتبعتها عدد من سيارات أجهزة أمنية أخرى لا ترتدي زي الشرطة المعروف لدينا. عند التاسعة والربع انقلب أسلوب الشرطة تماماً وأصبحت تدفع المواطنين بقوة وتضربهم بعصي "القنا" بقوة.. بعدها قام عدد كبير من رجال الشرطة يحملون "الدرقات" بحصر الناس في ممر ضيق على سور مبنى قصر الشباب ويضربونهم بقوة للسير في هذا الممر مع انه لا يسع أكثر من شخص لكن قوة الضرب جعلت الجموع تتدافع للسير في الممر الإجباري.. فجأة انتبهت لتحول أكثر من عشرة عساكر بعصيِّهم تجاه أحد الشباب وبشكل هستيري وأخيراً أخذوه داخل إحدى عرباتهم وهو منهار القوى, حاولت أن أحصي عدد عصي "القنا" التي تكسرت على ظهور المواطنين لكن لم أتمكن لأن التعجل كان ضرورياً وعلى كل هي كانت متناثرة في كل المسافة على شارع بانت, ولم أخمن وقتها هل تكسر القنا ناتج عن قوة الضربات أم انها ضعيفة أصلا؟ أحد سائقي الأمجاد أخذ يسير ببطء وهو يهتف "عاش السودان ديمقراطي حر" نهره العساكر فواصل سيره بسرعة, كل بائعات الشاي اللائي تواجدن علي سور قصر الشباب الجنوبي تم تكسير "العدة" التي يقدمن بها الشاي والقهوة وطرد المواطنين أصحاب الحظ السيئ الذين تواجدوا في تلك اللحظة لأي غرض غير المظاهرة... اتجه الجميع بأمر الشرطة تجاه حي بانت شرق, وبينما المسيرة تتجمع مرة أخرى من اتجاهات عديدة ظهرت سيارة في ميدان قريب من خور أبوعنجة وترجلت منها رئيس المكتب السياسي لحزب الأمة سارة نقد الله ودكتورة مريم الصادق المهدي وازداد حماس الجماهير وارتفعت الهتافات "تسقط تسقط حكومة المؤتمر الوطني", أيضاً "حرية حرية" وكذلك عائد عائد يا أكتوبر, الملاحظة التي رأيتها مهمة ساعتها هي عدم إنزال اليافطات التي كانت تحمل شعارات الأحزاب المنادية بالديمقراطية وإنفاذ اتفاقية السلام وسقوط المؤتمر الوطني وغيره برغم أن سرعة المشي تحولت بعد قليل الى جري سريع وسط شوارع حي بانت شرق, كانت تسير بجواري سيدتين تبدوان في الخمسينيات من عمريهما يحاولن السير بسرعة خوفاً من أن تلحقهم سيارات الشرطة قالت إحداهن للأخرى "الناس دي جارية خايفة من شنو؟ هي دي ما عيشة أخير منها الموت؟" لكن عندما تناهى الى أسماعنا بوق سيارات الشرطة إلا واختا في السير بسرعة.. واختلف المتظاهرون حول الاتجاه بعضهم دعا بقوة للرجوع الى البرلمان عبر الاتجاه شرقاً عن طريق الخور، لكن الغالبية أصرت علي الوصول الى دار حزب الأمة القومي بشارع الموردة، لكن هيهات؟ كيف الوصول فسيارات الشرطة قد وصلت أصواتها الى مسامعنا ونحن نتجمع مع عدد من ممثلي القنوات بغرض أخذ تصريحات منها عن موقف حزبهم تجاه هذا التطور, بعدها بدا ممثل لحزب العدالة حسب جاري الصحفي الذي كان يقف بجانبي في الحديث وقبل أن يكمل أتت سيارت الشرطة مما ضطر معظم الصحفيين الى اللجوء الى المنازل القريبة. إحدى سيارات الشرطة عادت متجهة جنوباً بسرعة وكادت أن ترتطم بصاحب سيارة متجهاً عكسياً في الشارع المؤدي الى الخور, بدأ نقاش حاد بين صاحب السيارة ورجال الشرطة حاولت بدوري أن أتابع سير النقاش لكن فجأة غيرت السيارة اتجاهها عائدة باتجاهي وصاح أحدهم بصوت عالي "خشو البيت دا جيبو الناس الجوه ديل"؟ لوهلة لم أصدق أنهم سيقتحمون منزل مواطن بهذه السهولة لكن قفز ستة أفراد من السيارة, دخلت الى المنزل منبهاً زملائي الصحفيين أن الشرطة ستدخل المنزل لكي يخرجوا دون أن يحرجوا أصحاب البيت المعني, دخل الأفراد الستة الى المنزل بينما اتجهت السيارة الى الجهة الأخرى ملاحقة من خرجوا بالباب الجنوبي من ذات المكان, حاول أحدهم أن يقبض علي لكني أخبرته بهويتي الصحفية دون أن أتحرك من مكاني, خرجت من المنزل وانهالت علي عصي الستة أفراد في كل جسمي رغم أنهم يعلمون أني صحفي, طالبوني بأن أركب السيارة وبرغم أني لم أبدي أي مقاومة إلا أنهم لم يتوقفوا عن ضربي حتى بعد أن أصبحت داخل السيارة وهم يتصايحون عليَ "أقعد تحت", استمر الضرب برغم أني أساساً "قعدت تحت", بعد أن أتوا باثنين من الزملاء خالد أحمد "صحيفة السوداني", مهند الشيخ "صحيفة رأي الشعب".. خالد ومهند كان يمكن أن يفرا هاربين لكنهم آثرا التضامن معي على سلامتهم الشخصية بعد أن تم ضربي أمام أعينهم, استلموا منهم بطاقاتهم وأركبوهم معي متجهين الى شارع الموردة بجوار مدرسة المؤتمر حيث أنزلونا وأمرونا بفظاظة أن نركب "الدفار", في الدفار كانت المعاملة أسوأ بعد أن حاول أحد العقلاء أن يتعامل معنا بشكل محترم مطالباً أن نجلس في كراسي الدفار لكن أتى بعده المتشددين ليأمرونا بالنزول أرضاً والاتجاه عكسهم لأنهم لا يردون أن "يشوفو خلقنا دي"؟. صاح أحدهم "تأخرتم كثيرا.. نحن نتظركم منذ الساعة الرابعة صباحا, ما عندكم مواعيد؟" كدت أن أضحك برغم كآبة الموقف إلا أن شرطي جالس بجانبي انتهرني بقوة" ما تضحك نحن ما أصحاب عشان نهظر معاك".. دار حوار قصير مع الضابط الذي نادانا متسائلاً عن وجودنا في مسيرة غير شرعية؟ أوضحنا له أن هذا عملنا, طالبنا بعدم التواجد مرة أخرى في مثل هكذا تجمعات رفضنا أن نلتزم له, صمت قليلاً ثم أخلى سبيلنا؟ تشاورنا قليلاً في وجهتنا القادمة واتفقنا على الذهاب الى دار ميدان الخليفة لمتابعة التظاهرة الأخرى, بالفعل توقفت لنا سيارة خاصة أوصلنا صاحبها في طريقه الى ميدان الخليفة, بالفعل وجدنا تجمعاً كبيراً أمام دار حزب الأمة يهتفون وهم محاصرون بسيارات الشرطة.. القادمون من مظاهرة بانت وصل بعضهم الى ميدان الخليفة, البمبان تدفق ليملأ الهواء, الحظ حالفنا مرة أخرى بأن وجدنا شخصاً يقلنا الى دار حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي حيث تناهى إلى أسماعنا خبر مؤتمر صحفي لتحالف جوبا الذي أخرج التظاهرة الأساسية وبالفعل أوصلنا الى أمام الدار حيث وجدنا عدداً كبيراً من قيادات الأحزاب والمفصولين والطلاب يتجمعون من كل اتجاه.. بعد قرابة الساعة قاموا بترتيب ندوة خاطبها حسين دوسة مساعد رئيس الحركة أعقبه أبوعيسى ومن ثم مبارك الفاضل وكانت الهتافات تقاطعهم كل لحظة "كفانا كلام.. الشارع أمام" انتهت الندوة الى مظاهرة متجهة الى دار حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل نفسه بمعية عدد من قيادات الأحزاب. لم ألحظ خلال متابعتي للتظاهرة ولم أرَ أي شخص يرمي طوبة تجاه الشرطة, ولم أسمع كذلك بمثل هكذا سلوك لكن الشرطة كانت تتعامل بشكل لا يشبه الحدث, بل ان بعض من كانوا برفقتهم أثناء اعتقالنا كانوا يهتفون لبعضهم بحماس كبير "إنجاز.. إنجاز"؟