بسم الله الرحمن الرحيم رئيس الجمهورية التركية 1/8/2016م أخي رجب أنا صديق تجربتك، ولذلك أصدُقَك. العقل الجمعي في السودان، وطني، يحفظ ذكريات نحو تركيا سالبة. ولكنني منذ انفتح ذهني للفكر السياسي قلت إن لتركيا تاريخاً إسلامياً مجيداً، فقد كانت صاحبة أطول خلافة إسلامية. ولكنها في الخمس الأخير من السلطة العثمانية فسدت، وكانت دعوة الإمام المهدي في السودان تعبيراً قوياً لرفض سلطانها وتحدي مشروعيته. ولكنني كممثل لهذا التراث عدلت عن انتقاد الأتراك، بل يوجه النقد لحقبة معينة في تركيا: الحقبة العثمانية. فالأتراك من أعظم الشعوب الإسلامية ولا يجوز أن ننظر إليهم بعين الفترة الأخيرة من السلطنة العثمانية. ولكنني أخذت على التجربة الكمالية التي قادها الزعيم التركي مصطفى كمال، أنه بالغ في ردة الفعل ضد الفساد العثماني، وتبني علمانية مختلفة عن النهج العلماني المعتدل، علمانية ذات نهج أصولي متطرف ضد الإسلام. ولكن الوجدان الإسلامي في تركيا قوي لذلك قاوم هذا النهج المعادي للإٍسلام مقاومة اتخذت أشكالاً مختلفة أهم معالمه: . حركات تصوف إسلامي حافظت في إطارها على الانتماء الإسلامي دون مواجهة الدولة العلمانية كما حدث في ظل الاتحاد السوفيتي. . حركة فكر إسلامي مستنير بقيادة بديع الزمان النورسي. . حركة إسلامية ذات معالم صوفية ونشاط مجتمعي واسع بعنوان الخدمة. . حركة الدعوة لبرنامج إسلامي يدعمه تنظيم مشابه للحركة الأخوانية لخوض العمل السياسي بقيادة نجم الدين أربكان. . حركة أربكان وجدت تجاوباً قوياً لدى الشعب التركي ولكن الدولة العميقة بقيادة القوات المسلحة حرمتها من ثمار شعبيتها، وحل حزبه الأول باسم النظام الوطني. ثم توالت إجراءات الحل لأحزاب كونها أربكان وزملاؤه باسم حزب السلامة الوطني، حل ليعقبه حزب الرفاه وحل، ليعقبه حزب الفضيلة وحل، ليعقبه حزب السعادة. إجراءات الحل هذه كانت نتيجة لانقلابات عسكرية اعتبر قادتها أنهم الأوصياء على التراث الكمالي في السنوات 1960م و 1971م و 1980م و1997م. . في سبعينيات القرن الماضي ضمني مع السيد نجم الدين أربكان عضوية المجلس الإٍسلامي الأوربي وكنت معجباً بإحياء الإسلام في وجه علمانية معادية له، ولكنني قلت له إن مراعاة الواقع المحيط الداخلي والأوربي جزء من الواجب. ولكن هذا النوع من التوجه كان غريباً على كثير من دعاة الصحوة الإسلامية. . الفكر الإسلامي المتدبر ظل ينادي بمعرفة الواجب اجتهاداً والإحاطة بالواقع ثم التزاوج بينهما. لذلك عندما انفصلت حركة العدالة والتنمية من خلفيتها الأربكانية شدت إليها أنظارنا، وصرنا نستشهد بها على استصحاب نشطاء ذوي مرجعية إسلامية للديمقراطية، والتعددية، والتنمية، وتوطين التكنولوجيا الحديثة، باختصار أنموذج للتوفيق بين التأصيل والتحديث. . القوى المضادة لهذا التوجه الحضاري كانت وراء محاولة انقلاب الجمعة 15/7/2016م الفاشلة. وبقدر ما كانت المحاولة أزمة فإنها أتاحت أقوى فرصة أثبت فيها الشعب التركي قوة التزامه بالديمقراطية، وأثبت حزب العدالة والتنمية مدى شعبيته، بل حتى أحزاب المعارضة التركية وقفت صفاً واحداً مع النظام الديمقراطي وضد المحاولة الانقلابية. وكان موقفاً قوياً في إدانة المحاولة الانقلابية وتأييد النظام الديمقراطي في تركيا. . قبل المحاولة الانقلابية كنا مشفقين لانقطاع الحوار مع عناصر المعارضة الكردية لأنه لا بديل لإجراء وفاق تركي كردي، في ظل المساواة في المواطنة والتعايش الأخوي بين الانتمائين. لا يوجد حل أمني للقضية الكردية وأفضل ما يفعل حزب العدالة والتنمية هو تحويل أزمة المحاولة الانقلابية التي دعمت موقفه بقوة لإجراء حوار جاد للتعايش السلمي، لأن المواجهات، لا سيما في ظروف تطورات معلومة في المنطقة، سوف تؤذي التجربة التركية التي أنعشت آمال الكثيرين في العالم الإسلامي وفي العالم غير الإسلامي الذي يهمه التعايش معنا في إخاء إنساني. . وقبل المحاولة الانقلابية أسفنا كثيراً للمفاصلة بين العدالة والتنمية والخدمة، فكلاهما يمثلان تياراً فكرياً ومجتمعياً متجذراً ولا يمكن استئصاله. فكل محاولة لاستئصال تيار متجذر فكرياً ومجتمعياً بالوسائل الأمنية فاشلة. . مع وجود جفوة حادة بين زعيمي العدالة والتنمية والخدمة لا يستبعد أن يتعاطف بعض عناصر الخدمة مع أية حركة ضد العدالة والتنمية. وهذا يبرر مساءلة كل الذين ثبتت مشاركتهم في جريمة المحاولة الانقلابية. . ولكن إلصاق تهمة الإرهاب بكل جماعة الخدمة، واتخاذ إجراءات عقابية عامة لا يجدي، ويفتح باباً للظلم، لذلك ينبغي حصر المساءلة فيمن ثبتت مشاركته في محاولة الانقلاب. والمبادرة بمصالحة جماعة الخدمة وقد أعلن زعيمها براءته من أية مشاركة. . الإجراءات الحالية ذات التجريم العام، وبالتالي القمع، سوف تضع التجربة التركية في تناقض مع كثير من المسلمين ومع الولاياتالمتحدة، ومع الاتحاد الأوربي، وقد كانت حادثة الطائرة المؤسفة وغير المبررة سبباً في عداء مع روسيا. . نحن نتطلع لنجاح تجربة العدالة والتنمية التي يقودها الرئيس رجب اردغان ونعتقد أن الإجراءات التي تتعدى المساءلة العادلة للتعميم الانتقامي سوف تحدث ضرراً بالغاً للتجربة. "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَب"[*] فهل من مجيب؟ قد بلغت اللهم فاشهد. [*] من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري