أخيراً عرفت كيف تسقط الطائرات من سموات بلادنا، كما أوراق الشتاء... حيث صار خبر سقوط طائرات في أي من مدن السودان أمر عادي غير مثير للدهشة، فقائمة السقوط طويلة وممتدة، وبين سقوط طائرة وأخرى، فترة زمنية قصيرة. وليس آخرها طائرة شهداء تلودي، التي ارتطمت بالجبل في أول أيام عيد الفطر المبارك الماضي، وراح ضحيتها العشرات من خيرة أبناء السودان، بحجة سوء الأحوال الجوية. ولهذه الأخيرة تحديداً قصة عايشتها، على أرض الواقع، وسأحكي لكم عنها تفصيلاً، حتى نرى ماذا ستقول فيها هيئة الطيران المدني المبجلة، وخصوصا أن للقصة شهود عيان، هم (28) ضابطاً من قيادات جهاز الأمن والمخابرات الوطني، و (8) صحافيين و(5) من طاقم الطائرة. شهاداتهم غير مجروحة، ولا تحتاج إلى صندوق أسود يرسل إلى الخارج، وتشيكل لجان تقصي حقائق، لمعرفة الحقائق، وفي الأخير لا تصل إلى حقائق. في تمام الساعة الخامسة مساء يوم الاثنين الماضي كلفني الأخ رئيس تحرير (السوداني) الأستاذ ضياء الدين بلال، بالسفر إلى مدينة بورتسودان، لتغطية فعاليات المؤتمر التنسيقي الأمني للولايات الشرقية (الشرق الأطماع والتحديات).. وكان مطلوب مني الحضور إلى المطار في تمام الساعة 6:30 مساء _ الصحفي مثل الجندي لازم يكون جاهز موية ونور في أي لحظة _ وذهبت للمنزل وجهزت حقيبة السفر، وتوجهت للمطار ووصلت في الموعد تماماً. نقطة التجمع كانت في صالة كومون لكبار الزوار، وجدت الزملاء الأفاضل (عبود عبدالرحيم، طلال إسماعيل، حافظ المصري، أشرف عبدالباقي، صلاح باب الله، رضا باعو، والمثنى الفحل) حضورا بالصالة... كان التواجد الأمني كثيفا جداً، الصالة امتلأت بعشرات الضباط.. بعدها علمنا أننا سنذهب إلى بورتسودان بصحبتهم... الشيء الذي رفع قرنا استشعارنا الصحفي بشدة، كلنا _ رجل الأمن، والصحفي _ يبحث عن المعلومة، مع اختلاف الأسباب، الأول غالبا مايحفظها تحت بند (سري للغاية)، أما الثاني "ففي خشمو ما بتتبلا فولا" هدفه (السبق الصحفي) والنشر الفوري... لذا كنت أقول لنفسي (ياربي الأمني والصحفي، ديل بتلمو كيف في حتة واحدة، خصوصا بعد المحاولة التخريبية وللا الإنقلابية؟!!!). المفاجأة الأخرى عند وقوفنا أمام الطائرة، التي ستقلنا، فقد كانت من طراز (انتينوف 32) الروسية _ سيئة السمعة _ والتي كان قد أصدر رئيس الجمهورية المشير البشير قراراً سابقاً يقضي بحظرها من الخدمة في السودان، بعد تعدد وتكرار حوادثها... سلم الصعود إلى الطائرة ذكرني بسلم (الجير) الذي كنا نصعد عليه لطلاء حائط المدرسة أو منزل الجيران في (يوم نفير)، مافضل كي يكتمل المشهد إلا (جردل الجير والفرشاة)... طبعا في تلك اللحظة، بعض الزملاء _وأنا ما بجيب اسمهم_ لم يجدوا أي طريقة ل(الزوغان)، فتوكلوا على الحي القيوم، وصعدوا على متن (الانتينوف، سيئة السمعة)... وهي من الداخل تبدو لك كدفار (كشة الخدمة الإلزامية) في سابق الزمان.. نظرت لكابينة القيادة وجدت الكابتن، عقيد شرطة طيار في منتصف العقد الرابع تقريبا، يعني (طيار خبرة)، هكذا قلت للإخوان علهم يطمئنوا شوية... أقلعت بنا الطائرة التي قال لنا المضيف إن زمن الرحلة يستغرق ساعة وأربعون دقيقة... مع دخولنا أجواء مدينة بورتسودان أخذت الطائرة تهتز بقوة شديدة جداً، تصورنا أنه مطب هوائي، إلا أن الهزة صارت تزداد مع مرور الزمن، وأصبحت السماء تلمع ببريق يخطف الأبصار من شدة البرق والسحب الرعدية الممطرة التي دخلت فيها الطائرة، لدرجة جعلتنا نرى تفاصيل جناح الطائرة، رغماً عن الليل حالك السواد... شاهدنا مدرج المطار، إلا أن الطائرة اصبحت مثل (المرجيحة) تتمايل ذات اليمين والشمال... استمر هذا الوضع قرابة (20) دقيقة... عن نفسي ومع بداية اهتزاز الطائرة، نطقت بالشهادة المحمدية (أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، يقنتني وثبتتني، وبعدها شرعت في الصلاة على الرسول الكريم... عممت هذه الوصفة على الإخوان... فهدأت من روعهم كثيراً... فلقد شخصت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر _وأنا ما بجيب سيرة الجرسة_ وشريط حياتك بكل مافيها يمر أمامك في ثواني... بعد أن تجاوزنا العواصف الرعدية والامطار الغزيرة، أخبرنا المضيف بعودتنا للخرطوم، بسبب سوء الأحوال الجوية (bad weather) هكذا قالها لنا... طبعا الطائرة لا توجد بها سماعات، حتى يخاطبنا الكابتن عبرها... وصلنا الخرطوم بحمد الله، ومع ملامسة الطائرة مدرج مطار الخرطوم، تهتز من جديد، وكأنما أنا راكب على ظهر (كارو) يجره حمار أعرج، وإطارات الكارو (مهمبكة)... أثناء نزولنا من الطائرة وجدت أحد الضباط يستفسر الكابتن عن الأمر... فقال العقيد الطيار (للأسف ناس الإرصاد لم يعطوا برج المراقبة بحقيقة الأجواء، وبرج المراقبة بدوره عندما استفسرته عن الأجواء قال لي إن السحب متفرقة، معتمدا على ناس الإرصاد، لكنه كان بمقدوره أن يعطيني التفاصيل بالنظر، فهو كان يشاهد هطول الأمطار بشدة... لذا كان من الخطورة بمكان الهبوط بمدرج بورتسودان)... تصوروا معي مدى هذا الاهمال. نعم (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ).... و (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)... وتتعدد الأسباب والموت واحد... لكن تبين لي أن هيئة الطيران المدني، بمنظومتها المختلة، وعللها العديدة الظاهرة للعيان، هي السبب وراء (النعوش الطائرة)، التي حصدت وستحصد _دون شك_ العديد من أبناء بلادنا... ولعجائب الصدف تسقط طائرة عسكرية بدون طيار ظهر أمس على سطح دورة مياه قرب مجمع الرحمة الطبي بالثورة الحارة (17)، وبحمد الله لم تتسبب بخسائر فى الأرواح أو الممتلكات. . هذه القصة أهديها لرئيس مجلس هيئة الطيران المدني الفريق طيار الفاتح عروة، وللمهندس محمد عبدالعزيز... فماذا هم فاعلون؟!. عطاف محمد مختار هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته