هل يكون صحيحا أن يختلس الرئيس السوداني عمر البشير 9 مليارات دولار من (أموال النفط!!) ويودعها في حسابت مصرفية في (بريطانيا!!)، كما جاء في التسريبات الأخيرة لويكيليكس منسوبة إلى لسان المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية لويس مورينو اوكامبو؟ أموال النفط بالذات، لا مجال إلى اختلاس 9 جنيهات منها، ناهيك عن 9 مليارات دولار، وذلك لسلسلة طويلة من الأسباب الجوهرية التي نشك كثيرا أن أوكامبو يسقطها من حساباته لا لشيء إلا لأنه يجهلها تماما، ونكاد نجزم هنا أن أوكامبو لا يعرف حتى موقع السودان الجغرافي من الصومال أو جيبوتي. من تلك الأسباب التي نستبعد معها أنه ليس بمقدور الحكومة السودانية سرقة أموال بهذا الحجم من عوائد النفط حتى لو تحول كل طاقم البشير إلى لصوص وقراصنة، نذكر هنا أن أسعار النفط كانت في أقل مستوياتها خلال الفترة منذ تصدير أول نفط سوداني في 1999 وحتى توقيع اتفاقية السلام في .2005 ثانيا: بدأ حجم الانتاج النفطي في السودان بأقل من 200 ألف برميل يوميا، ثم نما بوتيرة بطيئة، ولم يلامس سقف ال 350 ألفا إلا بعد عام 2005، ثم بدأ النمو تدريجيا حتى لامس سقف ال 500 ألف برميل في عام .2008 ثالثا: حصة الحكومة السودانية من النفط المستخرج خلال الفترة منذ الاستخراج وحتى توقيع الاتفاقية لم تتجاوز ال 5%. رابعا: مخصصات تغطية كلف نفقات الحرب التي كانت دائرة في أكثر من جبهة (مع المتمردين في الجنوب، والحركات العبثية في الغرب، وجبهة الشرق التي نبذت حركة الانفصال بعد اتفاقية السلام مع الجنوبيين)، كانت تتراوح بين 80 و90% من العوائد النفطية. فإذا استبعدنا هذه النسبة فإن إجمالي الأموال التي يدعي أوكامبو أنه تم اختلاسها من العوائد النفطية وتم تحويلها إلى حساب خاص بالبشير، فإن جميع أموال النفط الخاصة بالحكومة السودانية سوف تقل بمقدار 5 إلى 7 أضعاف عن 9 مليارات دولار. المسألة ببساطة هي أن أوكامبو الذي يبدو أنه لم يعد فاقدا البوصلة كما تقول الحكومة السودانية فحسب، بل إنه لا يملك البوصلة من أساسها، فهو لا يعرف جزما أن أسعار النفط في الأعوام منذ استخراجه وتصديره من السودان وحتى توقيع اتفاقية السلام في 2005، كانت في متوسطاتها كالتالي: عام 1999 كانت تراوحت الأسعار بين 17,45 و17,91 دولارا للبرميل، وفي عام 2000، كانت تتراوح بين 26,81 و28,44 دولارا، وتراوحت في عام 2001 بين 23,06 و24,46 دولارا، وفي 2002 تراوحت الأسعار بين 24,32 و25,03 دولارا، ثم ارتفعت قليلا لتتراوح بين 27,69 و28,81 في 2003، ثم عاودت الأسعار ارتفاعها في 2004، فتراوحت بين 34,53 و38,23 دولارا للبرميل. أما الأعوام التي تلت عام 2004، فقد كانت وما تزال هناك رقابة دولية على كل عوائد النفط السوداني، يستلم الجنوبيون حصتهم البالغة نحو 49% منها حسب مقتضيات اتفاقية توزيع الثروة والسلطة، إضافة إلى المراقبين السودانيين من أبناء الحركة وأبناء الجنوب الساهرة عيونهم على كل واردة وشاردة في هذا الصعيد. فمن أين أتى أوكامبو بهذه الفرية، وما أسباب تفجيرها في هذا التوقيت بالذات. في اعتقادنا، إنه حسب المسئولين السودانيين، فإن ثمة برقيات تحمل الرقم 9 مليارات دولار في طياتها، لكنها ليست حسابات خاصة بالبشير، بل هي قيمة الأموال التي تم تحويلها لحساب حكومة الجنوب تحت رقابة دولية بعد اتفاقية تقسيم الثروة، ورأى أوكامبو أنها مناسبة وفرصة لا تفوت للتزوير، فقام - كدأبه - بتزوير الحقائق، وتضمينها في ملفه الخاسر، ولعل الرجل فقد البوصلة حقيقة، فهو يعترف صراحة حسب ما تناقلته وكالة رويترز أمس على لسانه بهذا الأمر حين يقول: (إن الكشف عن ثروة البشير قد يؤدي الى تأليب الرأي العام ضده، ومن واقع خبرتي كمدع، حين تقع مثل هذه الجرائم.. وحين يسرق مال، فان ذلك يسهم في فقدهم - أي قادة الشعوب - للشرعية). أوكامبو يبحث عن أي ملف يضيفه إلى أجندة التوقيف التي أصدرها ضد البشير، وهو في الواقع يذكرنا بصائدي الجوائز الذين كنا نشاهدهم في أفلام الكاوبوي الأمريكية القديمة، ويبدو أن المسئول الإعلامي في حكومة البشير، ربيع عبدالعاطي وصلته هذه القناعة التي توصلت إليها، فبات يتعامل مع الأمر من هذه الزاوية، وهذا ما نستشفه من الجملة التي عبر بها عن رأي الحكومة في الأمر في تصريحاته لرويترز حين قال: إن السودان يصرح (يسمح) لأي شخص يثبت وجود هذه الأموال، بالاحتفاظ بها، كمكافأة له. يبدو أن أوكامبو سيلهث كثيرا ليثبت أن هناك أموالا بهذا الرقم في حساب البشير، ولكن عليه أولا البحث عن مجموعة صائدي جوائز ليدبروا حبكة قانونية نعتقد أنها ستكون محكمة إذا وجدوا من يسعفونه في إيداع المبلغ في حساب وهمي باسم البشير، قابل للاسترداد مرة أخرى، لكن لا بنك يضمن ذلك، فنحن وسط معمعة اسمها الأزمة المالية العالمية. المصدر: أخبار الخليج 19/12/2010