غياب الذاكرة حالة تصيب الإنسان فتنسيه ما كان ، وتذهله عما يكون. والحقيقة القرآنية تُطلعنا : أن هذه الحالة حالة فاشية في الناس. فأكثر الخلق يظنون أن ما فات من أيام وأحداث لا يعنيهم في قليل أو كثير، ولذلك يمضون في حياتهم على غير بصيرة، يكررون أخطاء الماضين ، ويدفعون الثمن الذي دفعوه ! والقرآن يحدثنا أن غياب ذاكرة الأمم وعدم انتفاعها بعظات التاريخ وعبره كان ولا يزال سببا أصيلا وقاسما مشتركا في كل النهايات المؤلمة التي آلت إليها حياة البشر أفرادا وأمما، وقد قال شعيب لقومه(ولا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد) ومن هنا جعل الله إنعاش ذاكرة الشعوب،واسترداد عقولهم الشاردة ،-من خلال آياته التي أجراها في الكون -وظيفة من وظائف الرسل، وأداة من أدوات التربية، ومصدرا من مصادر التثقيف( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) ، وأمر الله نبيه موسى أن يذكر قومه بوقائع التاريخ الماضية ليعتبروا بها في حياتهم الحاضرة (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله)،وقال تعالى تعقيبا على مصرع فرعون(فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) فالتاريخ -غابره وحاضره- كتاب مفتوح تأخذ منه الأجيال عبرا تقيها مصارع السوء، وسننا تهتدي بها في دروب الحياة،ولكن القرآن يحدثنا أن الناس لا يفعلون ذلك ليس بسبب جهل التاريخ ، أو طول العهد به ،أو النسيان الطبيعي لأحداثه ، ولكن بسبب إصرارهم على بلادة الفكر وعمى البصيرة(أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ومن كان هذا حاله فلا يرجى منه أن ينتفع بحدث حتى لو عاش فصوله أو شاهد آثاره ،وهذا ما أنكره الله على مشركي العرب الذين سكنوا في مساكن الظالمين ،ورأوا بأعينهم آثار مصارع المكذبين ، ومع ذلك كله لم ينتفعوا بعبرة أو عظة(وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون)،(ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ). وما أنكره القرآن على أهل الغفلة من قبل أصبح في حياة الأمة المسلمة اليوم -لا أقول جماهيرها العامة-،وإنما نخبها السياسية وقياداتها الفكرية، ثقافة يتواطأ الناس عليها، فذاكرة أمتنا مفقودة منذ عقود ،ولذلك فنحن لا نبالي بأن نخدع من الجحر الواحد مئين، ونتجرع سوء المنقلب حينا بعد حين (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون). بقلم الأستاذ: محمد الحبر يوسف