الامارات .. الشينة منكورة    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    شركة توزيع الكهرباء تعتذر عن القطوعات وتناشد بالترشيد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بحوت: معايير العقلاء


بقلم الأستاذ جعفر شيخ إدييس مفكر سوداني إسلامي
بعض الناس ينظر إلى خلافات الناس فيصيبه اليأس والقنوط: هذا مؤمن وذاك ملحد. هذا مسلم وذاك نصراني أو يهودي أو بوذي. هذا سني وذاك شيعي. هذا من جماعة كذا وحزب كذا وذاك من جماعة أخرى وحزب آخر. لو أن هذا اليائس البائس تذكر أن له عقلاً وأن له معايير يقيس بها ما يقبل وما يرفض لما أصابه هذا اليأس.
كما أن هنالك خصائص بدنية تميز الناس باعتبارهم بشراً رغم اختلاف أزمانهم وأماكنهم وبيئاتهم، فهنالك أيضاً خصائص روحية تميزهم باعتبارهم بشراً رغم كل تلك الاختلافات الزمانية والمكانية والبيئية. فالناس ليسوا إذن كما تصورهم بعض النظريات الغربية سجناء في خلايا ثقافية هي التي تحتم عليهم كيف يفكرون وما ذا يختارون. كلاَّ؛ بل إن ثقافات الناس المختلفة التي تشمل بالمعنى الحديث عقائدهم وتصوراتهم وقيمهم أشبه ما تكون بالمدن الحديثة. فكل مدينة لها خصائصها وطابعها، لكنها مرتبطة بالمدن الأخرى بشوارع معبدة وهواتف وغير ذلك من وسائل المواصلات والاتصالات. لو أن الناس كانوا كما تُصَوِّرهم أمثال هذه النظريات لما استطاعوا أن يتفاهموا ولا أن يغيروا من عقائدهم أو تصوراتهم التي أورثتهم إياها ثقافاتهم.
إن هذا ما كان ليمكن لولا وجود تلك الخصائص الروحية المشتركة والتي من أهمها ما يمكن تسميته ب (المعايير العقلانية) التي يقر بها كل الناس باعتبارها معايير صحيحة وإن لم يلتزموا باستعمالها أو قبول نتائجها في كل وقت.
بعض الناس ينظر إلى خلافات الناس فيصيبه اليأس والقنوط: هذا مؤمن وذاك ملحد. هذا مسلم وذاك نصراني أو يهودي أو بوذي. هذا سني وذاك شيعي. هذا من جماعة كذا وحزب كذا وذاك من جماعة أخرى وحزب آخر. لو أن هذا اليائس البائس تذكر أن له عقلاً وأن له معايير يقيس بها ما يقبل وما يرفض لما أصابه هذا اليأس.
نذكر فيما يلي على وجه الاختصار شيئاً من هذه المعايير، ونبين أنها كلها مما افترض القرآن في الناس معرفته، ولذلك حاكمهم إليه. وهذا من أقوى الأدلة على أن هذا الدين هو بلا شك دين الفطرة التي تخاطب الناس باعتبارهم بشراً لا باعتبارهم أصحاب ثقافة محدودة بزمان أو مكان معين.
من هذه المعايير المشتركة بين جميع العقلاء من البشر:
1 - القوانين المنطقية:
أعني القوانين التي ننتقل بها من المقدمات إلى نتائجها اللازمة عنها، والتي نعرف بها أن كل كلام يخالفها لا بد أن يكون كلاماً باطلاً. من هذه القوانين، بل أهمها وجوهرها ما يسمى ب (قانون الاتساق) أو (عدم التناقض). فكل الناس، بل حتى الأطفال يدركون أن الكلام المتناقض كلام باطل. فحتى الطفل يدرك أن قولك له: «لقد جئتك اليوم بهدية جميلة، لكنني لم آتك اليوم بهدية» كلام لا معنى له. وكل إنسان حتى الأطفال يدركون أن قولك اشتريت سيارة غداً أو سأشتري سيارة بالأمس، كلام متناقض لا معنى له. لكن ما كل الكلام المتناقض يكون بهذه البساطة والوضوح، بل قد يكون غامضاً يحتاج إلى نظر وتدقيق. من ذلك مثلاً أن المعتزلة كانوا يقولون إن الإنسان خالق أفعاله. لكن هذا معناه أن بعض الأشياء لا يخلقها الله تعالى، وهذا يعني أن الله ليس بخالق لكل شيء وهذا معناه تكذيب القرآن الذي يقرر {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وتكذيب القرآن كفر. فهل نقول لكل من قال ذلك القول إنك كافر؟ كلاَّ؛ فقد كان من إنصاف أهل السنة قولهم إنَّ لازم القول ليس بقول، أي إن القول الذي يلزم منطقاً وعقلاً عن كلام تقوله لا ينسب إليك قوله؛ لأنك قد تكون جاهلاً بلزومه عن قولك. لكن بيان هذا اللزوم من أحسن الوسائل التي يبين بها بطلان الكلام. من أمثلة ذلك في كتاب الله أن اليهود عندما أرادوا أن ينكروا رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم - جعلوا إنكارهم هذا تحت قاعدة عامة هي قولهم: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] لكن الذي يلزم عن هذه القاعدة العامة أن الله تعالى لم ينزل التوراة على موسى. لكن اليهود يؤمنون بأن التوراة كلام الله؛ ولذلك سألهم القرآن الكريم سؤالاً استنكارياً، فقال تعالى : {مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]؟
لعل أعظم موضع استعمل فيه القرآن الكريم هذا المعيار هو في قوله تعالى : {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
فهذه الآية لا تقول فقط إن القرآن الكريم لا تناقُض فيه، بل تجعل عدم هذا التناقض دليلاً على كونه من عند الله تعالى؛ لأنه لا يمكن لمخلوق أن يكتب كتاباً في حجم القرآن الكريم وتعدد موضوعاته وخطورتها والمدة الطويلة التي نزل فيها، ثم لا يكون في ما قال تناقض. ولكي تعرف مصداق ذلك انظر في أي كلام كتبه بشر على مدى بعض الأعوام فستجده هو نفسه يعترف لك بأن ما قاله في سنة كذا أو شهر كذا ينقض ما قاله بعد ذلك في سنة كذا وشهر كذا. وانظر أيضاً إلى النظريات البشرية كالديمقراطية والرأسمالية والاشتراكية وغيرها تجد فيها من التناقض ما الله به عليم. وقد كان وجود مثل هذا التناقض السبب المهم والأساس في إنكار بعض النصارى النصارى المسمون بالليبراليين أن يكون ما يسمونه بالكتاب المقدس هو كله من عند الله تعالى. وكان أيضاً سبباً في إنكار الكثيرين منهم لهذا الدين.
ولأن هذا المعيار مما فطر الله تعالى عليه البشر قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن علم المنطق اليوناني إنه علم لا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه البليد. ولو أن الشيخ قال: لا يحتاج إليه العاقل لكان أحسن؛ لأن الإنسان مهما كانت درجته في البلادة لا بد أن يكون له إلمام بهذا المعيار، ولا بد له من استعماله في حياته اليومية.
ولذلك فإنني كنت أعجب من قول بعض الغربيين: إن المنطق شيء خاص بثقافتهم، وأن أمماً أخرى لا تعرفه. بل إن أحد المستشرقين المشاهير تلقَّف هذا القول الظاهر بطلانه فزعم أنه يصدق على العرب، فقال متحدثاً باسمهم.
والذي ينتج عن هذا أننا إذا اكتشفنا شيئاً من التناقض في القرآن؛ فإن هذا يكون دليلاً على غناه وتجاوزه المثمر للفكر التجريدي المجدب. يمكن الاحتفاظ بعبارتين متناقضتين؛ لأن كل واحدة منهما تكشف جانباً من الحقيقة تهمله الأخرى؛ وعليه فإن العبارتين وإن لم يمكن الجمع بينهما منطقياً تعطياننا معاً صورة أكمل للحقيقة(1).
أقول بل إن العرب شأنهم في ذلك شأن سائر البشر لا بد لهم من إدراك بطلان الكلام المتناقض، وفي كلامهم من الشهود على ذلك ما لا يحصى. وعليه فكما أن هذه المعايير ليست من خصائص الأوروبيين فهي كذلك ليست من خصائص العرب. يدلك على ذلك أن كل أمة من الناس لا بد لها من لغة يتفاهم بها أفرادها، ولا بد أن يكون في هذه اللغة نفي وإثبات، ولا بد للمتكلمين بها من أن يعرفوا أن الشيء لا يمكن أن يثبت وينفى في وقت واحد؛ وهذا هو قانون الاتساق.
وهذا يدلك على خطأ الذين قالوا بتعدد الحق من الأصوليين إذا عنوا به أن يكون الأمر الواحد مُثْبَتاً ومنفياً، أو حلالاً وحراماً أو جائزاً وممنوعاً. ما أروع ما قال الإمام الشاطبي: الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك لا يصلح فيها غير ذلك؛ والدليل عليه أمور...(2).
لكن ما زال بعض الناس يستدلون على وجود مثل هذا التعدد المتناقض بقصة اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم في فهمهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم - : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلِّيَنَّ العصر إلا في بني قريظة». فيزعمون أن الرسول -صلى الله عليه وسلم - أقر الفريقين رغم تناقض موقفيهم. وحاشاه -صلى الله عليه وسلم - أن يفعل. إنه -صلى الله عليه وسلم - إنما أقر كل فريق على ما فعل، وهذا يتضمن عدم إقراره له على ما أنكر. فالذين صلوا قبل بلوغ بني قريظة كانوا يرون أن تأخيرها خطأ. والذين أخروها كانوا يرون أن تأجيلها خطأ. فالرسول -صلى الله عليه وسلم - بيَّن لهم أن كِلا الأمرين جائز وهما أمران لا تناقض بينهما؛ فكما أنه لا تناقض بين أن تقول لإنسان إن الصلاة في أول الوقت جائزة وفي آخره جائزة، فكذلك لا تناقض في أن تكون الصلاة قبل بلوغ بني قريظة جائزة وبعد بلوغها جائز
شهادة الحس
1 كل الناس في معظم أحوالهم يؤمنون بشهادة الحس، يؤمنون بأن ما رأوه بأعينهم أو سمعوه بآذانهم، أو أحسوه بجلودهم أو شموه بأنوفهم أو ذاقوه بألسنتهم هو كما شهدت به هذه الحواس. لكنهم قد ينكرون هذا في بعض الأحيان؛ لأنهم لسبب من الأسباب لا يريدون الاعتراف بالحقيقة التي شهدت بها. هذا الإنكار مسلك مخالف للعقل؛ ولذلك فإن القرآن الكريم يذم أصحابه في مثل قوله تعالى :
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الأنعام: 7].
لكن قلة من المفكرين من المسلمين وغير المسلمين يصرحون بأقوال فيها تشكيك في شهادة الحس. فهدا أبو حامد الغزالي رحمه الله يقول في أول كتابه (المنقد من الضلال):
فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها، فانتهى بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذت تتسع للشك فيها، وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة (واحدة) بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخونه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً».
على كلام أبي حامد هذا استدراكات:
أولاً: أنه لو كانت الثقة بالمحسوسات باطلة بطلاناً مطلقاً لكان ينبغي أن ما قال له بصره إنه ظِلٌ ليس بِظل، وما قال إنه كوكب ليس بكوكب.
ثانياً: كيف اكتشف أن الظل ليس ساكناً كما قال له بصره؟ يقول: «بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة» وهل تكون تجربة ومشاهدة إلا بالحس؟ ألا يعني هذا أن الحس هو الذي صحح ظنه بأن الظل لا يتحرك؟
ثالثاً: إن شهادة الحس داخلة في الدليل على أن الكوكب أكبر مما ظن؛ وذلك أن الناس يعرفون بالتجربة الحسية أنه كلما كان الشيء أبعد بدا أصغر. ثم وجدوا أن هنالك نسبة بين مسافة البعد وحجم الشيء المرئي.
رابعاً: قد تقول: لكن هذا إنما عرف بالعقل. ونقول: أجل! وهل تعمل الحواس إلا بمعونة العقل؟ وهل يعمل العقل إلا بمعونة الحواس؟
2 إن شهادة الحواس بالنسبة للمسلم أمر يقتضيه دينه كما يقتضيه عقله؛ وذلك أن في الإسلام أصولاً لا يكتمل الإيمان ولا العمل بها إلا بالاعتراف بشهادة الحواس. القرآن الكريم كتاب لا يمكن الاطلاع عليه إلا بالنظر أو بالسماع، وهما أمران حسيان. وما يقال عن القرآن الكريم يقال عن سائر العلوم. الصلاة والصيام والحج كلها تعتمد في معرفة مواقيتها على شهادة الحس. هذه مجرد أمثلة.
وهذا يدلك على أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر من الحقائق العلمية ما شهد الحس يصدقه. أقول الحقائق كالقول بأن شكل الأرض كروي ولا أقول النظريات كنظرية دارْوِن.
3 لكن ينبغي الاعتراف بأن حواسنا لا تعطينا علماً محيطاً بما نشاهد، إنما تعطينا جانباً منه. وهذا الذي تعطيناه وإن كان جزئياً إلا أنه حق وهو كافٍ لنا في معاملاتنا الدينية والدنيوية. مثال دلك أننا نعرف الآن بسبب الآلات التي تزيد من قوة حواسنا أن ما يبدو لنا صلباً من الأجسام ليس هو بالصلابة التي نراها، وإنما هو مكون من ذرات بينها فراغات. وقل مثل دلك عما نراه سائلاً. ونحن حين نرى الشمس قد غربت أو أشرقت تكون قد فعلت دلك قبل ثماني دقائق من رؤيتنا لها تشرق أو تغرب. بل يقولون إن كثيراً مما نراه من نجوم السماء يكون قد انفجر وتبدد مند آلاف السنين. ولكن بما أننا لا نرى الشيء إلا حين ينعكس الضوء منه على أعيننا وبما أن هذه الأجرام تبعد عنا ملايين الملايين من الأميال؛ فإن ضوءها لا يصلنا إلا بعد آلاف من السنين تكون هي في أثنائها قد ماتت؛ فما نراه منها إنما هو تاريخها لا حاضرها.
لكننا في معلاملاتنا اليومية وفي ديننا إنما نتعامل مع الأشياء بحسب ما تبدو لنا؛ فأوقات الصلاة والصيام والحج لا تعتمد على الحقائق الفلكية التي يتحدث عنها علماء الفلك وإنما تعتمد على ما يظهر لنا منها. ذكر لي بعض الشباب في أحد المؤتمرات ببريطانيا ذات مرة أن رجلاً زعم أن في الإسلام ما يخالف الحقائق العلمية وضرب لذلك مثلاً بافتراضنا أن الشمس تتحرك والأرض ثابتة؛ لأننا نقول مثلاً: إن وقت الظهر يحين عندما تصير الشمس في كبد السماء. قلت له: ألستَ تجد في جرائدكم اليومية مواقيت طلوع الشمس وغروبها؟ فلو أن الناس التزموا بالحقائق الفلكية وحدها لما جاز لهم الحديث عن شروق وغروب؟ لأنه إذا كانت الشمس ثابتة بالنسبة للأرض؟ فكيف يقال إنها شرقت أو غربت؟ لكنني ذكَّرته بأن العلماء أنفسهم يسمون هذا بالحركة الظاهرية للشمس، وهي الحركة التي نعتمدها في حياتنا اليومية.
4 مما يتصل بهذا أعني بعدم رؤيتنا للحقائق المحسوسة كما هي في حقيقتها أن الله سبحانه وتعالى قد يفعل ذلك رحمة بنا. من ذلك قوله سبحانه :
{إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإذْ يُرِيكُمُوهُمْ إذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 43 - 44].
وقوله سبحانه :
{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].
5 يتعلل بعضهم في عدم إيمانه يوجود الخالق سبحانه أنه لا يؤمن إلا بما يرى {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]. ويدعي بعضهم في عصرنا بأن هذا أمر يقتضيه المنهح العلمي. وكذبوا؛ فإنهم لو كانوا صادقين في عدم تصديقهم بما لا تراه أعينهم للزمهم أن لا يؤمنوا بحوادث التاريخ، وللزمهم أن لا يصدقوا بوجود شيء في الأماكن التي تبعد عنهم بُعداً لا ترى ما فيها أعينهم. بل للزمهم أن يذهبوا مذهب بعض الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم إنما يؤمنون بما يرون ما داموا يرونه، ويقولون: من يدرينا أنه ما زال موجوداً حين نغمض عنه اعيننا أو نلفت عنه أنظارنا؟
وظن بعضهم أن الحواس لا تدرك إلا ما كان ذا طبيعة مادية (كما نقول بلغتنا الحديثة) ولذلك أنكروا إمكانية رؤية الخالق سبحانه لأن الله ليس كمثله شيء؛ فكيف تراه الأعين التي لا ترى إلا ما كان من نوع تلك المخلوقات؟ هؤلاء أخطؤوا عدة أخطاء:
فأولاً: إن كون المخلوقات تُرى (بضم التاء) لا ينهض دليلاً على أن ما كان من طبيعة غير طبيعتها لا يُرى. فرقٌ بين أن تقول: إن المخلوقات التي هي من النوع الفلاني تُرى، وبين أن تقول إنها هي وحدها التي تُرى.
ثانياً: نحن نعلم الآن أن هنالك موجودات لا تراها حواسنا المجردة لكنها تُرى بوساطة الآلات التي تساعد تلك الحواس. فنحن نرى بالتلسكوب من الأشياء البعيدة ما لا يمكن للعين المجردة أن تراه، ونرى بالميكروسكوب من الأشياء الدقيقة ما لا يمكن لها أن تراه. ولو أننا حكمنا على الأشياء بمنطق هؤلاء لقلنا إنها لا يمكن أن تُرى إطلاقاً؛ لأن الذي يُرى إنما هو الذي يمكن للعين المجردة أن تراه.
ثالثاً: نعم! إننا لا نرى ربنا سبحانه في هذه الحياة الدنيا؛ ولذلك عندما دعا نبي الله موسى عليه السلام ربه قائلاً: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال له الله تعالى : {قَالَ لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143].
لكن الله تعالى : قال عن المؤمنين في الدار الآخرة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]
فدل ذلك على أن العلة في عدم رؤيتنا لخالقنا في هذه الحياة هو طبيعة أعيننا لا ذات خالقنا سبحانه. فذاته سبحانه لا تتغير وإنما الذي تغير هو طبيعة حواسنا. فكما أن عدم رؤيتنا للكائنات البعيدة والدقيقة لم يكن سببه طبيعة تلك الكائنات وإنما كان سببه طبيعة أعيننا، فلما ساعدتها الآلات على الرؤية رأت ما لم تكن ترى، فكذلك فإنه عندما تتغير طبيعة الناس في الجنة فيكونون مخلوقات تأكل ولا تخرج منها فضلات، وتتحرك ولا تتعب ولا تنام، فكذلك تتغير طبيعة حواسهم فترى ما لم تكن تستطيع رؤيته في دنياها.
7 يقول بعض الفلاسفة المعاصرين كلاماً كان أئمة أهل السنَّة يقولونه قبلهم منذ سنين: يقولون إن ما لا تمكن مشاهدته بحال من الأحوال فليس بموجود. ولذلك فإن أهل السنة الذين كانوا يقولون ذلك كانوا يقولون للجهمية ومن ذهب مذهبهم في صفات الله تعالى : إنكم تعبدون عَدَماً. وقد كان هذا التصور العدمي لصفات الخالق سبحانه من أكبر الأسباب التي تعلق بها بعض الملحدين في الغرب. كانوا يقولون لزملائهم المؤمنين: عن أي شيء تتحدثون؟ شيء لا يمكن أن تراه الأعين ولا أن تسمعه الآذان ولا يُحَس ولا يُشَم ولا يُذاق؟
وقد ذكر الإمام أحمد في أول كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية كلاماً نفيساً في تفسير السبب الذي أدى بالجهمية إلى هذا التصور التعطيلي لصفات الخالق. قال رضي الله عنه :
فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي أناساً من المشركين يقال لهم السُمنية فعرفوا الجهم، فقالوا له: نكلمك؛ فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك؛ فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألستَ تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم! فقالوا له: فهل رأيتَ إلهك؟ قال: لا. قالوا: فهل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممتَ له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدتَ له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يوماً، ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى...... فقال للسُمني: ألست تزعم أن فيك روحاً؟ قال: نعم! فقال: هل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال فوجدتَ له حساً أو مجساً؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يُسمع له صوت ولا يُشَمُّ له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان...... فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يفعل ولا له غاية ولا له منتهى، ولا يدرَك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون، ولا له جسم، وليس هو بمعمول ولا معقول، وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.
قال أحمد:
وقلنا: هو شيء؟ فقالوا: هو شيء لا كالأشياء. فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شئ.
السنن الكونية
عقلاء الناس في كل زمان ومكان يؤمنون بأن الحوادث لا تحدث خبط عشواء، بل يعتقدون أولاً أن لكل حادث منها سبباً، ويعتقدون ثانياً أن الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة سواء في عالم الطبيعة، أو عالم المجتمعات، أو عالم النفس. ويعلمون أنه لولا هذا الاطِّراد في الأسباب والمسبَّبات وجريانها على نسق واحد لما أمكن أن تكون هنالك علوم طبيعية ولا اجتماعية ولا نفسية، ولما استفاد الناس من دراستهم للتاريح، ولما استفاد بعضهم من تجارب بعض ولا اتعظوا بها، بل ولما استطاعوا أن يتعاملوا مع الطبيعة والناس من حولهم، بل ولا مع أنفسهم. كيف يمكن هذا إذا كان من الممكن للحادث أن يحدث من فراع، أو إذا كان السبب الواحد يؤدي إلى مسببات مختلفة بل متضادة بحسب الزمان والمكان؟ كيف إذا كان الماء الذي رش على النار فأخمدها بالأمس يُرَش عليها اليوم فيزيدها اشتعالاً؟
لكن الإيمان بالقاعدة لا يعصم الناس من الخطأ في تطبيقها، ولا يلزمهم بعزو المسببات إلى أسبابها الحقيقية التي يعلمونها، بل بعزونها زوراً إلى أسباب يعلمون أنها ليست أسباباً لها. فالناس يظلون مخيرين: من شاء اعترف بالحق، ومن شاء كذَّبه. لكن أولي الألباب منهم لا يكتفون بالإيمان بصدق القاعدة، بل ينظرون في دعاوى الربط بين المسبَّبات المعينة وأسبابها المدَّعاة: هل قام دليل على صدقها أم لا؟ ولولا ذلك لما كذَّب الناسُ السحرةَ والدجالين والمخرفين، ولما عرفوا الفرق بين النبي المرسل ومدعي النبوة. لكن الصدق لا يعصم من الخطأ. فقد يظن الإنسان صادقاً أن هنالك رابطاً بين نتيجة معينة وسبب معين، ويكون مخطئاً في ظنه. يحدث هذا حتى في أكثر العلوم الدنيوية انضباطاً كعلم الفيزياء أو الكيمياء، ودعك عن علم الطب وعلم النفس والاجتماع!
وبما أن الإسلام إنما يخاطب العقلاء من الناس فإنه يستعمل هذه الحجة التي يسلِّمون بها، فيدعوهم تارة إلى الاعتراف بالنتائج التي عرفوها، ويذكِّرهم تارة بأن السبب الذي رأوه أدى إلى نتيجة معينة لا بد أن يؤدي إلى النتيجة نفسها في حالة أخرى، ويعرِّفهم تارة بأسباب يجهلونها، ويخطِّئ ظنهم في أسباب ظنوها أسباباً لمسببات معينة وما هي بأسبابها الحقيقية. وإليك أمثلة على ذلك وهي قليل من كثير:
{فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 43].
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137].
{لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60 - 62].
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 22 - 23].
الملاحظ أن السنن التي وصفها القرآن الكريم في هذه الآيات وغيرها بأنها لا تتغير ولا تتبدل إنما هي ما يمكن تسميته بالسنن الاجتماعية. أما السنن الطبيعية فلم يرد في كتاب الله وصفها بهذه الصفات؛ والسبب واضح وهو أنها يمكن أن تُخرَق، أعني أن السنن التي يعرفها الناس والتي تسمى الآن بالقوانين الطبيعية كقانون الجاذبية يمكن أن تُخرَق. فالنار لم تحرق سيدنا إبراهيم، والبحر انفلق لسيدنا موسى، والقمر انشق لسيدنا محمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. لكن بما أن الخوارق أمر نادر فيمكن أن يقال إنها هي الأخرى ثابتة لا تتغير. ثم إن الخرق إنما هو خرق للسنَّة التي اعتادها الناس، وليس خرقاً لقانون السببية؛ ذلك لأن الخرق نفسه يكون بأسباب أخرى ليست معهودة للناس.
وهذه أمثلة لم تُذكر فيها كلمة السنَّة، لكن ذكر فيها معناها وهو التذكير بأن الأسباب المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة:
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43].
{فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بُمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51].
وكما يذكِّرنا الله سبحانه وتعالى بسنَّة تكرار النتائج إذا ما تكررت الأسباب؛ فإنه يرشدنا أحياناً إلى أسباب لم نكن نعلمها. من ذلك قوله تعالى :
{وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].
في هذه الآية الكريمة دليل على أن هنالك علاقة سببية بين الأقوال اللسانية والأحوال القلبية. فإذا ما تشابهت القلوب تشابهت الأقوال، ولا يلزم لذلك أن يأخذ اللاحق من السابق. كما قال تعالى :
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 52 - 53].
أتواصَوْا به؟ كلاَّ؛ فهم لم يَلْقَ بعضهم بعضاً، ولكن سبب التشابه في الأقوال هو الطغيان الذي في القلوب.
وبسبب هذا التلازم بين الأحوال القلبية والعبارات اللسانية كان من المتعذر على المنافق أن يخفي نفاقه. قال تعالى :
{وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
بل إن القرآن الكريم ليدلنا على أن هذه العلاقة بين الظاهر والباطن سُنَّة عامة:
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46].
في هذه الآية دليل على أن هنالك تلازماً بين الإرادة والعمل. فمن ادعى أنه يريد عملاً معيناً وكان قادراً على أن يأتي به أو بشيء منه ثم لم يفعل ذلك علمنا أنه كاذب في دعواه.
يذكِّرنا الإمام الشاطبي بأن هنالك علاقة لزوم بين معرفة الدين الحق واطِّراد السنن، أي أنه لو لم تكن السنن الكونية مطَّردة لما أمكن أن تعرف حقيقة الدين؛ لأنه إنما يعرف بالمعجزة التي تخرق العادة؛ فإذا لم تكن هنالك عادة مستمرة لم يكن هنالك ما يخرق.
ويذكِّرنا رحمه الله بأن اطراد التشريع مبني على اطراد السنن الكونية. أعني أنه لو كان خلق الناس وخلق الكون من حولهم في تغير مستمر لما أمكن أن يكون لهم تشريع ثابت لا يتغير. فثبات التشريع وعدم تغيره من زمان إلى زمان أو من مكان إلى مكان دليل على أن من شرع لهم لا تتغير فطرهم وطبائعهم التي بني عليها التشريع، وإن تغيرت بعض أحوالهم التي لا علاقة لها به(1).
بقي من هذا الكلام سؤال نختم به هذا الحديث الموجز عن السنن الكونية: ما علاقة الأسباب بالخالق سبحانه وتعالى؟
افترق الناس في هذا إلى طرفين غالطين ووسط أصاب الصواب. وقف أصحاب الطرف الأول عند حدود الأسباب، واعتقدوا أنها هي التي تفعل بنفسها؛ فلا حاجة إلى افتراض خالق لها، وغفلوا عن حقيقة ماثلة أمامهم تقول: إنه لا يوجد في العالم سبب مستقل بفعل؛ فما من شيء ندعوه سبباً إلا وهو معتمد في فاعليته على أسباب أو شروط أخرى، تعتمد هي الأخرى على أسباب وشروط، فأنَّى يكون مستقلاً؟ وغلط مؤمنون فظنوا أن فاعلية الأسباب تتناقض مع خلق الله، فكأنهم ظنوا أنه إذا عُزي الفعل للسبب فلا يمكن أن يعزى إلى الخالق، ولذلك قالوا عن اطِّراد السنن التي يرونها ماثلة أمامهم بأن الله تعالى يخلق عندها لا بها، أي إذا رأيت الورقة أُلقيت في النار فاحترقت فلا تقل: إن النار أحرقتها، ولكن قل: إن الله أحرقها عند ملاقاتها للنار. قال أهل الحق: إن الله تعالى هو الذي خلق الأسباب وجعلها أسباباً؛ ففاعليتها لا تدل على الاستغناء عنه، كما أنها لا تتناقض مع خلقه لها، بل إن من عادته سبحانه أن يخلق بالأسباب، ولذلك استعملت باء السببية في وصف كثير من الحوادث الطبيعية:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9].
{وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 99] .
وكما استُعملت في القرآن باء السببية فقد استُعملت كذلك عبارات أخرى كثيرة تدل على السببية، لكن المجال ليس مجال تفصيل لهذا الأمر.
النفع والضرر
أذكِر القارئ الفاضل بأننا نتحدث في هذه السطور عن المعايير التي يقرُّ بها ويزن بها الأمور عقلاء الناس، أو كل إنسان في الحال التي يكون فيها عاقلاً. وهي معايير فطر الله الناس عليها؛ فهم عالمون بها قبل ورود الشرع، والشرع يأتي مقراً بها ومؤكداً لها ومستعملاً لها في دعوته الناس إلى الحق، وفي الحِجَاج معهم. واستعمال هذه المعايير في مجادلة الناس مهم؛ لأن الناس وإن كانوا يعترفون بها، بل ويلتزمون بها في كثير من شؤون حياتهم، إلا أنهم كثيراً ما يتناقضون فيأبون الالتزام بلوازمها لأسباب غير عقلانية.
معيار النفع والضرر هو أحد هذه المعايير، وهو معيار يقر به الناس ويستعملونه في حياتهم اليومية: في الأمور المادية، والمسائل الفكرية. فالناس يختارون من الأشياء والأفعال والتصرفات ما يرون فيه نفعاً لهم، ويفضلون ما كان أكثر نفعاً على ما كان أقل منفعة، ويجتنبون ما يضرهم، ويرتكبون أخف الضررين حين لا تكون لهم خِيَرة. يستعملون معيار النفع والضرر هذا في ما يختارون من مطاعم ومشارب وملابس ومراكب وأدوية وآلات وغيرها. إن من أكبر الأدلة على التزام الناس بهذا المعيار أنك لا تجد أحداً يدعو إلى فكرة أو إلى آلة فيقول للناس إنها ضارة بهم، أو أنه لا نفع فيها لهم.
لكن كون الشيء نافعاً أو ضاراً أمر يحتاج إلى علم. ولذلك فإن الإنسان مع التزامه بمعيار النفع والضرر قد يخطئ فيختار بسبب جهله ما هو ضار أو أكثر ضرراً، ويترك ما هو نافع أو أكثر نفعاً. وكثيراً ما يفعل هذا بسبب الدعاية التي يدعوه بها الكذابون والغشاشون من التجار والمشعوذين والسياسيين.
يأتي الدين الحق ليقر هذا المعيار الذي فطر الله الناس عليه، وليستعمله في دعوتهم إلى قبول الحق الذي يهديهم إليه. فإذا كانت دعامة الدين الأولى هي الإيمان بالله، فإنه يذكِّرهم بأن الله تعالى هو الذي خلقهم وهو الذي يرزقهم، وهو الذي خلق لهم من الأشياء ما فيه منفعة لهم كالحديد والفلك والأنعام، وهو الذي يميتهم ويحييهم، وهو المتصف بصفات الكمال من علمٍ بكل شيء، ومقدرة على كل شيء ورحمة وسعت كل شيء. ولذلك كان من الخير لهم أن يعبدوه فيخضعوا له ويطيعوا أمره فيما أمرهم:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ * خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 1 - 5].
ولذلك كان من عدم العقل أن تعبدوا ما لا يملك لكم نفعاً ولا ضراً، ولا يصرف عنكم سوءاً، ولا يمنع عنكم شراً:
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67].
والإنسان العاقل يُؤْثِرُ النفع الآجل الأكثر على النفع الحاضر الأقل. هكذا يفعل الإنسان حين يدخر، وهكذا يفعل التاجر حين يكف عن البيع العاجل إذا توقع ربحاً آجلاً أكثر. والقرآن الكريم يستعمل هذه الحجة في مثل قوله تعالى :
{كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 20 - 25].
وإذا كان الله تعالى هو القادر على ان يعطيكم ما تعلمون أن فيه منفعة لكم، وهو القادر على أن يقيكم مما تعلمون أن فيه ضرراً بكم؛ فإنه هو أيضاً الذي يدلكم على ما لا تعلمون من أنواع المنافع والمضار.
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وإذا كان في بعض الأشياء نفع وضرر فإنه أعلم منكم بمقدار نفعها وضررها، وأعدل منكم في الحكم لها أو عليها:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة: 219].
\ الجمال:
وهل الجمال معيار؟ أجل! والله إنه لمعيار من أهم المعايير المتفق عليها بين العقلاء. كيف أقول هذا والناس دائماً يرددون القول بأن الجمال من الأمور التي تختلف فيها الأذواق؟ أقول: لكنهم لا يختلفون في تفضيل ما يرونه جميلاً على ما يرونه قبيحاً، ولا يختلفون في جمال كثير من الأشياء وقبح أضدادها. والجمال المتفق عليه بينهم بشمل جمال المناظر، وجمال الأصوات، وجمال الأقوال، وجمال الروائح.
هل رأيت من بشر يبتهجون لمنظر أكوام الزبالة ويكتئبون حين يشاهدون باقات الزهور؟ وهل رأيت من بشر يَطرَبون لنهيق الحمير ويشمئزون حين يسمعون تغريد البلابل والطيور؟ وهل رأيت من بشر يصغون لثرثرة الجهلاء ويصدون عن شعر الشعراء ونثر الأدباء؟ وهل رأيت من بشر يستمتعون بالروائح المنبعثة من مداخن المصانع ويتأذون من عبير العطور؟
بين الناس إذن اتفاق على ما هو جميل وما هو قبيح وإن اختلفوا في بعض التفاصيل. وفي القرآن الكريم ما يدلك على هذا الاتفاق. ألم يقل الله عن بقرة بني إسرائيل إنها تسر الناظرين، فعمم الناظرين ولم يخصهم بناظري بني إسرائيل. وألم يقل سبحانه في معرض المن على عباده بما خلق لهم من بعض الحيوانات:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5 - 8].
فجمع سبحانه في هذه الآيات بين نعمة المنفعة من دفء وأكل وحمل وركوب وبين نعمة الجمال ونعمة الزينة.
وقال تعالى عن الحدائق:
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60].
ففي هذه الآية الكريم ذكر نعمة البهجة فقط، ولم يذكر نعمة المنفعة.
فالجمال كما تدلك هذه الآيات ليس قاصراً على جمال المناظر.. فكما توصف النساء بالجمال فكذلك توصف به مكارم الأخلاق. {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً}، [الأحزاب: 28] "{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]. وكما يوصفن بالحسن؛ فبه أيضاً توصف الأعمال. فالأعمال منها ما هو حسنات يحبها الله، ومنها ما هو سيئات لا يحبها. وكل ما يحدث للناس من أنواع النعم فهو حسنات، وكل ما يصيبهم من أنواع النقم فهو سيئات.
وأعظم الحسن وأجله وأعلاه هو حسن الأسماء والصفات الإلهية.
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].
ومن أوصافه الحسنى هذه كونه جميلاً ومحباً للجمال.
القيم الخلقية
ربّما كان معيار القيم الخُلُقية أكثر المعايير دوَراناً على ألسنة الناس في تقويمهم للأشخاص والتصرفات؛ فهم ما يزالون يحكمون على هذا بأنه سياسي كذاب، وذاك بأنه رجلُ دينٍ منافق، وعلى تلك بأنها امرأة شريفة، وعلى هؤلاء بأنهم موظفون أُمناء وهكذا...
فنحن لسنا إذن بحاجة لأن نقيم دليلاً على أن هذه القيم من المعايير التي يلجأ إليها العقلاء، أو سائر الناس في حال تقويمهم العقلي.
أما المسألة التي تحتاج إلى شيء من البيان بسبب ما أُثير حولها، ولا سيما في الفكر الغربي من شبهات، فهي مسألة علاقة القيم الخلقية بالأوامر والنواهي الإلهية.
زعم بعض المنتسبين إلى الأديان حتى من المسلمين أنّ قِيَم الصدق والأمانة والوفاء وسائر المكارم الخلقية إنما تُعرف بالدين ولا معنى لها قبل ورود الشرع، وزعم آخرون أن الإيمان وحده هو الذي يدفع الإنسان للالتزام بهذه القيم، وأن من لا إيمان له لا خُلُقَ له.
قال المعترضون: لكننا نعرف بالحس والتجربة أناساً صادقين أو أُمناء مع أنه لا علاقة لهم بِدِينٍ.
بل زعم بعض الفلاسفة أن التزام المتدين بمكارم كالصدق والأمانة ليس التزاماً بمكارم خُلُقية، وإنما هو تصرُّف تاجر يريد أجراً على فعله، وأن الملتزم بمكارمَ مثل هذه باعتبارها مكارمَ خُلُقية لا يفعل هذا رجاءَ ثواب أو خوفاً من عقاب، وإنما يفعله؛ لأنه عملٌ حَسَنٌ في نفسه.
فما وجه الحق في هذه المسائل؟ نقول:
أولاً: أما معرفة الناس بحسن أصول المكارم الخُلُقية من صدق وأمانة وعدل ووفاء وغيرها قبل ورود الشرع بها أو أمره بها فمسألة لا شك فيها، بل هي من لوازم الدين التي لا يعرف الناس حقيقة الدين إلا بها.
إذاً؛ لم يكن الناس قادرين على التمييز بين الصدق والكذب، أو بين حُسْن الأول وقُبح الثاني؛ فكيف يميزون إذن بين نبي صادق ومدّعٍ للنبوة كاذب؟ وكيف يميزون بين كلام الله وافتراءات الدجالين؟
إن الشكر هو لُبّ العبادة، وما أنواع العبادات من صلاة وصوم وحج وذِكْر إلا وسائل يعبر بها العبد عن شكره لله تعالى؛ فإذا لم يكن يعرف معنى الشكر ولا حُسْنه قبل ورود الشرع به؛ فكيف إذن يستجيب للدعوة إلى عبادة الله؟
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22].
فالدعوة إلى عبادة الله في هذه الآيات الكريمات وأمثالها دعوة إلى شكره على نعمه التي أنعم بها على الإنسان.
وكذلك الدعوة إلى القراءة باسمه تعالى في أول سورة طرقت أسماع العباد هي دعوة إلى شكره على نعمة الخَلْق ونعمة العِلْم. وأن الذي لا يستجيب إلى هذه الدعوة فيشكر الله تعالى عليها هو الذي أصابه من الغرور ما جعله يعتقد أنه مستغنٍ عن الخالق سبحانه. قال تعالى :
{اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 1 - 7].
ثانياً: إذا كان الخطاب الشرعي مبنياً على حقيقة أن الناس عارفون بحسن الصدق والأمانة والعدل والوفاء وغيرها؛ فمن الخطأ أن يُعرّف الإحسان بأنه ما أمر الله به، أو يُعرّف الشر بأنه ما نهى الله تعالى عنه. فرقٌ بين أن تقول: إن الله يأمر بالعدل، وأن تقول: إن العدل هو ما أمر الله به. فالعبارة الأولى تعني أن الإحسان كان إحساناً قبل أن يأمر الله به، والشر كان شراً قبل أن ينهى الله عنه. أما الثانية إذا قصد بها تعريف الخير والشر فإنها تعني أن ما أمر الله به لم يكن إحساناً أو خيراً قبل الأمر به، وما نهى عنه لم يكن شراً قبل النهي عنه. لكن هذا تلزم عنه شنائع كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية؛ إذ قال كلاماً فحواه أن هذا القول يفرغ بعض الآيات من معانيها ويجعلها تحصيل حاصل. وذكر على ذلك مثلاً قوله تعالى : {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فإذا قلت: إن العدل هو ما أمر الله به، كان معنى الآية: إن الله يأمر بما يأمر به. أما بالقول الثاني فيكون في الآية ثناء على الله تعالى أنه يأمر بالعدل الذي يعرف الناس أنه عدل وأنه شيء حسن. يتضح لك هذا في قوله تعالى :
{وَإذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 28 - 29].
فالله تعالى ينزِّه نفسه عن أن يأمر بالفحشاء، وأنه إنما يأمر بالقسط. فإذا فسرت الفحش بأنه ما نهى الله عنه والقسط أنه ما أمر الله به، صار معنى الآية: إن الله لا يأمر بما ينهى عنه، وإنما يأمر بما يأمر به.
ثالثاً: لماذا يلتزم المسلم بمكارم الأخلاق؟ لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه كغيره من عباد الله من ذوي الفطرة المستمرة على استقامتها: يصدق، أو يفي، أو يعدل؛ لأنه يحب هذه الخصال ويبغض أضدادها، ويرى في الالتزام بها إكراماً لنفسه، وفي الخروج عليها تدنيساً لها.
ثانيها: أن إيمانه بربه وحبه لما يحب يقوّي هذا الشعور الفطري فيه.
ثالثها: أنه يرجو ثواب ربه ولا سيما حين يقتضي الفعلُ الحَسَنُ قدْراً من التضحية. وهو في كل هذا سائر على مقتضى المعايير التي يلتزم بها العقلاء. أما غيره فإنه حين يسلك هذا السلوك الحسن يضطر لأن يخرج على بعض تلك المعايير. إن كل إنسان يرى أنه من أكبر العبث أن يُقْدِم على فعل لا يرجو منه نفعاً ألبتة كما بيّنا في المقال السابق. فما الذي يجعل مكارم الأخلاق مستثناة من هذه القاعدة؟ إنه حتى الذي لا يؤمن بالله ولا بآخرة لا يلتزم بها التزاماً لا يجد له نفعاً في هذه الحياة الدنيا. بل إنه قد يُحْسِنُ لِمَا يجد للإحسان من أثر طيب على نفسه، أو لأن الناس يحمدونه عليه، كما كانوا يفعلون مع مشاهير الكرماء من أمثال حاتم الطائي. فما الذي يجعل العمل من أجل مثل هذا الثواب خيراً من رجاء الثواب عند الله تعالى؟
حين كنت أفكر في كلام هؤلاء الفلاسفة أيام الشباب لفتت نظري هذه الآية الكريمة:
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
قلت: إذا كان الصدق رأس المكارم الخُلُقية ومع ذلك ينتفع به صاحبه نفعاً خاصاً؛ فلا منافاة إذن بين أن يكون العمل من مكارم الأخلاق وبين أن ينتفع به صاحبه.
ثم لفت نظري قوله سبحانه الذي وجدت فيه الرد على شبهتهم:
{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ} [الرحمن: 60].
فكأن الآية تقول لهؤلاء: إن الذي ظننتموه متناقضاً مع مكارم الأخلاق هو منها ومن مقتضياتها.
بعض الفلاسفة الذين أثاروا هذه الشبهة ذكروا هم أنفسهم في مقابلها شبهة تنقضها. فهذا زعيمهم الفيلسوف الألماني «كانْت» الذي اشتهر بنظرية تسمى: الواجب المطلق categorical imperative ، والتي فحواها: أن الإنسان يجب أن يلتزم بمكارم الأخلاق لا لأيِّ سبب نفسي أو خارجي، بل أداءً للواجب الذي يعبّر عنه هذا الأمر المطلق المسمى ب «القانون الخُلُقي». هذا كما ترون مجرد تحكم، لكنه قول صار عند الغربيين من النظريات الخُلُقية التي ما تزال تُدرس وتُنشر.
لكن «كانْت» هذا قال في مكان آخر قولاً ينقض دعواه هذه.
في مناقشته لأدلة وجود الخالق انتهى إلى أن أحسن دليل هو الدليل الخُلُقي الذي فحواه أن القانون الخُلُقي يقتضي العدل، أي: أن تكون سعادة الإنسان متناسبة مع التزامه بالفضيلة. وهذا أمر لا يضمنه إلا الخالق، لكنه لم يضمنه في هذه الدنيا فلا بد إذن من دار أخرى يتحقق فيها.
والقارئ المسلم يعلم أن ما يُسمى بالدليل الخُلُقي مصرّحٌ به في كثير من آيات الكتاب العزيز، من مثل قوله تعالى :
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4].
وقوله تعالى : {إنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 34 - 36].


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.