(كلام عابر) وبعدين معاكم؟ الشعب المصري معروف بخفة الدم والنكتة والسخرية التي تتوارثها الأجيال عبر التاريخ، وهذا التاريخ حافل بالقهر سواء كان على يد الحاكم الأجنبي أم الوطني، والأخير لم يسجل التاريخ أنه حكم مصر إلا في الفترة التي تلت يوليو 1952م، وأيا كانت جنسية القاهر أو القهر فقد شكلت النكتة وخفة الدم مع كثير جدا من الصبر أسلحة فعالة للإنسان المصري ساعدته على احتمال الظلم والتكيف معه ، لا الوقوف في وجهه والعمل على إزالته كما حدث استثناءا في شهر يناير الماضي. خفة الدم المصرية لم تبق على أحد من شعوب المنطقة إلا وطالته، وكان للسودانيين منها نصيب كبير وإن كانت خفة الدم في حالتنا، ربما لأننا الحلقة الأضعف، أو يعتقدون أننا الحلقة الأضعف، تتخذ شكل السخرية المتعالية التي تبلغ حد الابتذال. الأمثلة كثيرة ومتواصلة لهذا الاستعلاء. آخر نموذج قبيح صادفني هو ما عرضته قناة نايل كوميدي التي أشاهدها أحيانا ، ففي مسلسل كوميدي لا أستحضر اسمه عرض مساء السبت 14 مايو ولا أعرف من نجومه إلا حسن حسني بحكم أنه أصبح قاسما مشتركا في كل الأفلام والمسلسلات والاعلانات المصرية، قالت إحدى الممثلات إن فلانا نقل لحلايب فترد عليها الأخرى (يستاهل وعقبال ينقلوا "تامر" "أمو ضرمان")، وينتهي المشهد والحلقة بالضحك على هذا التعليق. وهذا لا يختلف كثيرا عن الكوميديا العنصرية القبيحة التي جسدها فيلم "عيال حبيبة" الذي يسخر من لون بشرة السودانيين و شارك فيه ذات الحسن حسني. وإذا أيقنا،ولو إلى حين، أن حلايب أرض مصرية بمنطق القوة أو "التكامل" أو أي منطق آخر فما دخل "أمو ضرمان" بحركة تنقلات موظفي الدولة المصرية حتى ينقل لها موظف مصري؟ هل لا سمح الله تمتد حدود حديقة مصر الخلفية إلى "أمو ضرمان" استنادا على "حق الفتح" و"الحق التاريخي" أم أن الأمر لا يعدو كونه "نكتة" و"خفة دم" من النوع الذي أصابنا منه الكثير عقب مبارة مصر والجزائر في استاد المريخ وما زلنا "ننضرب على قفانا"؟ أغلب الظن أن تكون تلك الحلقة قد تم تصويرها قبل التغييرات الأخيرة في مصر ولكن المأمول في ظل الجو الثوري الديمقراطي ، نوعا ما، الجديد في مصر أن يتغير تعاطي الشارع المصري مع الشأن السوداني وأن تختفي هذه النظرة الاستعلائية التقليدية، وهو أمر لن يتحقق بين يوم وليلة بطبيعة الحال، فالغالبية العظمى من الشعب المصري لا تعرف كثيرا أو قليلا عن السودان ، والقلة القليلة منه التي تعرف ، تنطلق من معلومات خاطئة ونظرة سلبية. إذا شاءت الظروف أن تقترب أكثر في المهاجر من هؤلاء "الأشقاء" فإنها ستكون مسألة وقت وسرعان ما تكتشف احساسه بالتفوق عليك حتى لوكان يحمل فوق كتفيه "مخ زلط" وبالكاد يفك الخط ومهما كان حظك من المعرفة والدرجات العلمية . وهذا "الشقيق" معذور لأنه ضحية ثقافة بائسة نشأ عليها. من ضمن مسببات هذا التعالي الركض بلا سيقان وراء سراب "العروبوية" والوحدوية ، وما يزال الركض مستمرا، ولكن نتمنى أن تتغلب نظرة الاحترام للمواطن السوداني في العقل المصري عموما مثلما بنفس القدر الموجود لدى جيراننا في أثيوبيا واريتريا وتشاد وأفريقيا الوسطى ويوغندا وكينيا والكونغو، فهؤلاء جميعا لا يتخذوننا مادة للسخرية أو التعالي. ثقافة الاحترام المتبادل والندية في التعامل هي أساس التواصل بين الشعوب والمعبر الصحيح للوصول للمصالح المشتركة. البداية الصحيحة هي عدم بث مثل هذه الأفلام المستفزة وإعادة تعليم وتربية المواطن المصري بصفة عامة عبر أجهزة الإعلام لتصحيح الأفكار السلبية والاستعلائية التي ضخت في رأسه عبر السنين وأن يتعود المصري على جميع المستويات على احترام السودان والسوداني لكي يتعلم السوداني من جانبه أن يحب "الحمرة المابيها المهدي"، وهنا يجيء دور القيادات الشابة والقوى الجديدة في مصر التي أفرزتها الثورة الشبابية ودور الكثيرين من المثقفين والأكاديميين والصحافيين الشرفاء في مصر الذين نكن لهم كل الود والاحترام ونعرف قدرهم. وإلا فهي لعنة الجغرافيا بلا شك. (عبدالله علقم) [email protected] (الأخبار)