المباحث الجنائية المركزية ولاية الجزيرة تنفذ حملة أمنية كبري بالسوق العمومي وتضبط معتادي إجرام    "بناء الدولة وفق الأسس العلمية".. كامل إدريس يدعو أساتذة الجامعات للاسهام في نهضة البلاد وتنميتها    بلاغ بوجود قنبلة..طائرة سعودية تغيّر مسارها..ما التفاصيل؟    مونديال الأندية.. فرصة مبابي الأخيرة في سباق الكرة الذهبية    نبيل عبد الله: قواتنا بالفرقة 14 مشاة صدّت هجومًا من متمردي الحركة الشعبية بمحطة الدشول    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن جريمة قتل غامضة وتوقف المتورطين    كيف تغلغلت إسرائيل في الداخل الإيراني ؟!    أكثر من 8 الاف طالب وطالبة يجلسون لامتحانات الشهادة الابتدائية بسنار    أردوغان: الهجوم الإسرائيلي على إيران له أهداف خبيثة    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سليمان عبد الجليل بين الرحيل والوصية و مساخة الحلة
نشر في سودانيات يوم 18 - 02 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
سليمان عبد الجليل بين الرحيل والوصية و مساخة الحلة
عروة علي موسى
[email protected]
الشاعر الصحافي ، والإعلامي سليمان عبد الجليل رحمه الله رغم قلة ما بأيدينا من أشعاره إلا أنك من خلالها تتعرف على انسان مرهف وشفاف ، فتراه يشبع التفاصيل الدقيقة في الجغرافيا احساساً بالحضور فتكاد تلمسها بيدك وتتعلق بها رغم بعد المسافة التي بينك وبينها ، وإن شئت دقة ربما أنك لم تكن قد حظيت برؤية ما يذكر من أمكنة ، ولكنك تراها ملء العين لأنه أي شاعرنا قد خبر تفاصيل مجتمعه وهي بالطبع لا تكاد تتخلف عن روح المجتمعات الأخرى بالسودان عموماً . فالقرية بكل ما فيها من عبق وسماحة ومناظر طبيعية خلابة نجدها عند شاعرنا كبيرة وواسعة لها القدرة على التقمص والانتقال من محل لآخر لأن الاحساس واحد ، والذكريات المطبوعة هنا هي نفسها التي هناك مع التأكيد على وجود خصوصية لكل مكان .
الشاعر سليمان عبد الجليل ترى في أشعاره حنيناً جارفاً ، وتداعي ميّال لخلق الصورة المختزلة في الذاكرة ساعة كتابة النص . فها هي الصور تنهال عليك تترى : ( القمري فوق نخل الفريق ، الجروف الكابة من شاطيء النهر ، وذات الضفائر الطائشة بين معشر عشيرة وبين أهل ، والسواقي النايحة طول الليل ، والتميرات البهيفن ،والقمرة غابت في عشياتو ) .
سليمان عبد الجليل بكى الأطلال في حلفا القديمة حينما غمرتها مياه السد ، ووقف مدافعاً كنوبي غيور على تاريخه وتراثه ومرتع ذكرياته ، ولا شك في أن أغنيته الشهيرة ( الرحيل ) هي نتاج لذلك الهمج الذي أصاب حلفا في مقتل وجعل أهلها يغادرون إلى مكان آخر سموه ( بحلفا الجديدة) تيمناً بالمدينة الكبرى ، وحنيناً ، وحباً ، ووعداً بالرجوع وإن طال الزمن .
سليمان عبد الجليل اختط طريقاً سار فيه وحيداً رافعاً فيه راية التحدي للتهجير والتغريب .
وكما كان يفعل الخليل في جل قصائده عندما يعمد لذكر المرأة في أشعاره وتكون الغاية هي الوطن كان سليمان عبد الجليل .
كتب شاعرنا ثلاثة قصائد شهيرة تكاد تكون ذات وحدة موضوعية واحدة ، فإذا نظرت إليها كوحدة واحدة تجد أنها نوَّعت المشاهد داخل القصيدة الواحدة ، بحيث تبدو في الظاهر مجزأة ، منفصلة ، ولكنها في النهاية تكون رؤية واحدة ، هي تعميق موقف ما بكل تفاصيله في حياة شاعرنا عموماً .
يبدأ الموقف عند شاعرنا عندما أزمع الأحبة بالرحيل ، وتركوا ورائهم أرض الجزائر والمراكب ، وسيل الذكريات . ولما استيئس شاعرنا من وقف هذا النزيف لم يجد بداً من قول ( الوصية ) محذراً من قوة عين المفارق . فرحيل أحبة صدتهم الظروف عن حفظ الوصية بالتواصل حتماً سيؤدي إلى أن تصير ( الحلة ) المكان الذي فارقه الأحبة باهتاً فاقداً لمعناه مما حداه للقول (يا مساخة الحلة يوم ناس أمنة فاتو ) .
إذن الثلاثية هي : ( الرحيل الوصية ومساخة الحلة ) .
1
حليل ارض الجزائر
و المراكب و الطنابير الترن
حليل.. ناس ليلى
ساعة.. الليل يجن
يا غالية.. يا تمرة فؤادى
الليلة ما عاد المراكب شرقن
و القمرى فوق نخل الفريق
فاقد الاهل يبكى.. و يحن
نحمل رسائلنا و اشواقنا
لي حبايبنا.. و الاهل
و للقاطعين الرسائل
الاحلى من عسل النحل
لذات الضفائر الطائشة
بين مجلس عشيرة و بين اهل
و بخجل.. بتسأل الزائر
بلدنا..حبايبنا..اهلنا
راحو للحلة لا بيكاتبوا
لا بيفيدونا.. الحصل
حليل الراحوا خلو الريح
تنوح.. فوق النخل
حليل الفاتو لدار الاهل
بدون.. اهل
الجروف الكابة من شاطئ النهر
صابا.. المحل
و النخل متاكئ وين صوت طيرو
و وجوج.. فى امل
يااااا امل
سماها شاعرنا ( الرحيل ) والرحيل لغة هو : (رحل عن المكان رحلاً و رحيلاً و ترحالاً و رحلة ) أي ( سار و مضى ) ورحيل شاعرنا هنا كان عن دار الأحبة لذا جاءت مناجاته مغلفة بحنين دفّاق مرتبطاً بالمكان وإنسانه وعبيره ومكوناته مستخدماً لفظ ( حليل ) ذلك التعبير الشعبي المتخم بالحنين والتوق والاشتياق .
( حليل ارض الجزائر
و المراكب و الطنابير الترن )
هذه خريطة واضحة المعالم لدار الأحبة بعدما أن هجرها الشاعر مُجبراً . ويردف شاعرنا لفظ ( حليل ) باكياً على فراق ليلى ، ولك أن تلحظ أنه جعلها ( ناس ليلى ) فليلى في (الرحيل) هي ( فاطمة الفنجري ) في الوصية ، وهي ( أمنة ) في مساخة الحلة فهذه ليلات كثر تجعلنا نميل إلى أن الشاعر هنا تقمص إحساس الآخرين الذين ما أتوا الموهبة للتعبير عن مشاعرهم بمثل هذا الفيض الجميل ، ونميل أكثر إلى أن شاعرنا اتخذ من ذلك قضية ليست ( ذاتية ) وإنما أراد أن يحكي معاناة الناس جميعاً على مستوى الإحساس الذي لم يسلم كذلك عند فراق الشمل ودار الأحبة من التأثر بمياه السد كما هدّت المباني ومضارب الذكريات .
فا هو الليل قد جن واستحكم طوقاً بالمحبين وبات الفراق تأثيره أكبر ليجعل كل واحدٍ منهم يتداعى ويناغي ليلاه جاعلاً منها تمرة لفؤاده التصاقاً ومدعاة للقول بأن الأحبة هم الحياة وروحها ، فهاهي المراكب كفت عن الانتقال من البر الشرقي إلى الغربي ، وطير القمري ( الحنين ) واقفاً على الأطلال ( نخل الفريق ) فاقداً للطلة البهية من ( ليلى ، وفاطمة الفنجري ، وأمنة ) كل صباح وهن يُجمِّلن مزارع النخيل ، وعندما غبن أحس ذاك القمري كأنما أهله غائبين ، فبكى بصوته الشجي مشاركاً شاعرنا ، وكل المحبين فقدهم .
(حليل.. ناس ليلى
ساعة.. الليل يجن
يا غالية.. يا تمرة فؤادى
الليلة ما عاد المراكب شرقن
و القمرى فوق نخل الفريق
فاقد الأهل يبكى.. و يحن
)
ووسط هذا الجو المشحون بالتوق والصب لا يجد شاعرنا إلاّ أن يلجأ إلى اسلوب الرسائل لمعرفة أخبار الحبيب ، ولأن القمري أقدر على الترحال والتطواف يريد شاعرنا أن يحمِّله مشاعره الفياضة ونجوى نفسه المضمخة بالشجون للأهل وللحبايب القاطعين للرسائل التي عند وصولها تكون هي أغلى وأحلى من مذاق العسل لأنها تنقل لك خبر الحبيب ، وتمضي هذه الرسائل بصورة أكثر خصوصية لذات الضفائر لتنقل لنا صورة بديعة وهي صورة للحبيبة ذات الضفائر الحرة الاسترسال وسط العشيرة والأهل .
(نحمل رسائلنا و اشواقنا
لي حبايبنا.. و الاهل
الرسائل و للقاطعين
الاحلى من عسل النحل
لذات الضفائر الطائشة
بين مجلس عشيرة و بين اهل) .
ولأن العرف في الحكم له اعتباره . أكد شاعرنا على تقاليد وأعراف منطقته مصوراً ( خجل ليلى ) وهي تسأل كل زائر من البلد عن : البلد ، والأهل والحبايب الذين رحلوا عن ( الحلة ) وغابت أخبارهم ، وضنوا عليها بالكتابة والإفادة بالحال .
(و بخجل.. بتسأل الزائر
بلدنا..حبايبنا..اهلنا
راحو للحلة لا بيكاتبوا
لا بيفيدونا.. الحصل ) .
وحبيب ليلى هناك بين الجروف والنخيل ينوح مع الريح التي أضناها الشوق ، فرددت حنينها نوحاً بصوتها المعروف كأنها ناقة ضيعت جنينها فرددت الحنينا . ليرجع بنا شاعرنا إلى لفظ الحنين والتوق ( حليل ) باكياً على الراحلين إلى دار الأهل بدون أهل ؛ مصوراً شكل الطبيعة التي تعاطفت معه ، فبدأت الجروف كأنما أصابها المحل والجفاف ، والريح تولول على هامات النخيل ، وأشجار النخيل خائرة القوى فاقدة لصوت القمري المعتزل التغريد لفقده طلة ( الليلات ) ، فأشجار النخيل هذه هي أكثر من يعرف تفاصيل الحكايا وليالي الشجن والإلفة والبوح الشفيف في باحتها المعطرة بعبير دفء النيل ومزدانة بضوء القمر الفضي المنسكب على رمالها الناعمة ، وغارقة في موسيقى صوت القمري الشجي ، فحق لذاك النخيل أن تكون تلك حاله طالما أنه قد فقد من يعطيه احساسه بأنه ضمن دورة الحياة وله دور في صيرورتها وخلق رتم نسقها ، وترتيب ألقها ليكون جزءاً من ذكريات الناس هناك .
( حليل الراحوا خلو الريح
تنوح.. فوق النخل
حليل الفاتو لدار الاهل
بدون.. اهل
الجروف الكابة من شاطئ النهر
صابا.. المحل
و النخل متاكئ وين صوت طيرو
و وجوج.. فى امل
يااااا امل )
2
الوصية
لا سلام منك وما منك تحية
للوراك خليتو عايش في الاسية
ما حرام يا الفنجري ما تسيب وصية
قمت زي طيرا غريب سافر عشية
ما قبيل وصوني يا حليل الوصية
كت مكضب كنت ناسي
دابو صدقت المفارق عينو قوية
السواقي النايحة نص الليل
حنين الدنيا ممزوج في بكاها
زي طيورا في الفروع محتارة بتفتش جناها
البيوت والناس بتسال عن صبية
فارقت حلتنا زي طير غريب سافر عشية
ما حرام ماضيك يصبح ليك اسية
يا سلام لو كان جفاك بحسن نية
كنت نسيتنا الوصية المفارق عينو قوية
اوع ليل الغربة ينسيك ريحة الطين في جروفنا
والتميرات البيهفن ديمة راقصات في قلوبنا
والدعاش والغيم رذاذها في العصير بالفرح بلل كتوفنا
نحن راجعين في المغيرب
للديار لا حد يشوفنا لا نشوفو لا يشوفنا
عمد شاعرنا في الجزء الثاني ( الوصية ) للوم والعتاب موجهاً ذلك لتمرة فؤاده ( فاطمة الفنجري ) وذلك عندما ضنت عليه الظروف بوصول الرسائل الأحلى من عسل من النحل ، ففي هذا الجزء سكب شاعرنا حشاشته وحنينه وحبه وشجنه مازجاً ذلك بفيض من الطبيعة مصوراً حاله وهو عايش في ( الأسية ) التي جاءت بعدما نأت ( فاطمة الفنجري ) بفعل مؤامرة السياسة والظروف التي كانت تسود البلد وقتها ، فها هو يصور رحيلها مثل الطير الغريب الذي عندما يغادر في المساء فتراه يسرع الخطى ويزيد سرعةً في الطيران لأنه يريد الانتقال إلى مكانه الذي يعرف حيث أهله وعشيرته وفلذات أكباده الصغار .
(لا سلام منك وما منك تحية
للوراك خليتو عايش في الاسية
ما حرام يا الفنجري ما تسيب وصية
قمت زي طيرا غريب سافر عشية )
والوصية هنا تختط ثلاثة طرق : الأول كون أن الوصية من شاعرنا للمحبوب حاثاً إياه أن يعمل على إرسال الرسائل ليقف بها على حاله ، ولعلها تخفف عنه بعض سادية السياسة والعسكر الجهلة .
الثاني : هو ما خبر وما سمع من حديث الأجداد والجدات المثل القائل : ( المفارق عينو قوية ) .
الثالث : الدعوة للرجوع منتقداً الذين استهوتهم الديار الجديدة فنسوا مرتع صباهم وذكرياتهم .
وبالمثل ( المفارق عينو قوية ) يربط شاعرنا عدم وصول الرسائل من المحبوب بأن ثمة تجاهل قد تم من قبل المحبوب المفارق ، وهذه هواجس طبيعية تنتاب المحبين لا يكون القصد منها توبيخ المحب بقدر ما هي لوم وعتاب ليس إلاّ ومداعبة كأنما أن انقطاع الرسائل أرتد به لما اختزل في الذاكرة مما حوى ذلك المثل الذي هو وصية من الأجداد والأسلاف ( المفارق عينو قوية ) رغم أن الأمر في البداية لم يكن يقيناً ، ولكنه رسخ عندما ضنت الظروف بوصول رسائل المحبوب ( دابو صدقت)
(ما قبيل وصوني يا حليل الوصية
كت مكضب كنت ناسي
دابو صدقت المفارق عينو قوية ) .
يتداعى شاعرنا حنيناً والتصاقاً بعناصر الطبيعة التي صورها وكأنها كانت ترهف السمع لما يقول الناس في البلد وتعرف الشخوص وتحس بالمشاعر المتبادلة بينهم ، فا هي السواقي في جوف الليل تنوح حاملة حنين الدنيا كلها في أنينها مشاركة شاعرنا بحرقة وحسرة على غياب ( فاطمة الفنجري) .
يا لهول الفقد عند شاعرنا الذي جعله من فرط حيرته عند غياب الحبيب أن صور نفسه مثل الطيور المرتبكة بين غصون الأشجار جيئة وذهاباً تبحث عن وليدها ، فهذا التشبيه يكبر ويتنامى عندما تعرف أن شاعرنا وفي بحثه المضني هذا يعلم علم اليقين أن حبيه قد رحل بيد أن الطيور يحدوها الأمل في وجود وليدها .
والبحث والسؤال عن الحبيب لم يقف حده عند شاعرنا بل أن كل البيوت تسأل عنها الحبيبة ( الصبية ) ، وهنا ربما أراد شاعرنا أن يوسع دائرة الإحساس إذ أن ليلي الرحيل هي فاطمة الفنجري في الوصية وهي أمنة في مساخة الحلة ، فالهمُ عند شاعرنا ليس ذاتياً فهو همٌ جلل أصاب كل المحبين عندما غمرت مياه السد احاسيسهم ونأت بالمحبين بعيداً عن دار الأهل بدون أهل . والسؤال عن سرب الحسان الذي غادر كأنه الطير الغريب الذي يغادر في المساء عندما تنتهي رحلة جمعه لقوت عياله فيعقد العزم على الرحيل دون أن يحس به أحد لماذا هذا الرحيل المسائي ولماذا هذه العجلة ، فالغريب أن الطير ذاهب لدياره لكن الأمر عند الذين غادروا البلد مجبرين كأنما هي إشارة ولفت نظر للذين كانوا السبب في ذلك الرحيل والتهجير والتغريب بأنهم عندما غادر الناس طفقوا ينظرون إليهم كأنهم طائر غريب رحل في المساء دون أن يحس به الناس .
(السواقي النايحة نص الليل
حنين الدنيا ممزوج في بكاها
زي طيورا في الفروع محتارة بتفتش جناها
البيوت والناس بتسال عن صبية
فارقت حلتنا زي طير غريب سافر عشية )
في الجزء الأخير من الوصية يتضح الدرب الثالث ( الدعوة للرجوع ) وهذا هم عام استطاع شاعرنا وبحنكة أن يربطه مع همه الخاص ولا تكاد تملس ما يفرق بينهما إلاّ بتركيز شديد مستخدماً لفظ ( ما حرام ) أي كيف يمكن أن يكون الماضي الجميل وذكرياته الحلوة مجرد محطة للأسى كلما عركتك آلام الفراق والشوق لدار الأهل ( ما حرام ماضيك يصبح ليك اسية ) ليستخدم شاعرنا العذر الملفوف بثوب من الأمل حينما يقول: ( يا سلام لو كان جفاك بحسن نية ) لينسى وصية الأجداد ومثلهم ( المفارق عينوو قوية ) فهذا العتاب الخفيف مرتبط بأمل أن يكون هذا الغياب الطويل قد فرضته ظروف وسيزول حينما تختفي تلك الظروف .
ولأن الأمل ما زال يلف شاعرنا بعودة الجميع لممارسة الحياة الطبيعية التي كانت قبل الرحيل نراه في ختام هذه الوصية يؤكد على ضرورة التمسك بالعادات والتقاليد وجمال المورث من الأسلاف ، فتراه محذراً الجميع من ( ليل الغربة ) ، وهي غربة مقصودة لذاتها ( الغربة داخل الوطن ) حتى لا ينسي الناس ريحة الطين في الجروف ، والتميرات البهيفن ، والدعاش والغيم رابطاً ذلك بمشهد دارمي حي هو بهجة العودة من الحقول ساعة الأصيل ( عند المغارب ) تحت الدعاش وزخات المطر ، والكلٌ مرتبط القلب والخاطر بليلى وفاطمة الفنجري ، وأمنة السمحة ، حيث لا رقيب ولا حسيب ، ولا ذم ولا ثمّ اعتداء .
(اوع ليل الغربة ينسيك ريحة الطين في جروفنا
والتميرات البيهفن ديمة راقصات في قلوبنا
والدعاش والغيم رذاذها في العصير بالفرح بلل كتوفنا
نحن راجعين في المغيرب
للديار لا حد يشوفنا لا نشوفو لا يشوفن )
3
يا مساخة الحلة
يوم ناس امنة فاتو
والقمرة غابت في عشياتو
ولا فرشت رمال الحي لجيناتو
والقمري عشعش ما قوقن جنياتو
ما قوقن قوقن جنياتو
ولا معروف مكان راحو
وين فاتو ....
نحب ياتو ... نسيب ياتو
نحب النيل وشتلاتو
نحب نخلا تهش للناس زعيفاتو
نحب بنوتنا لما الليل يسافر بنجيماتو
وانتو هناك يا ناس امنة
سيد الوجعة ما عارفين حكاياتو
يختتم سليمان عبد الجليل الثلاثية ب ( يا مساخة الحلة يوم ناس أمنة فاتو ) .
الآن لم يبق شيء . ها هي الحلة تغطت بالوحشة وما عادت كما كانت تستهوي شاعرنا وبقية النفر المحبين مما حداه للقول بأن الحلة فقدت طعمها ونكتها وأصبحت ماسخة يوم أن نأت عنها فاطمة الفنجري ، وليلى ، وأمنة . فشاعرنا مازال ماسكاً على لفظ ( ناس ) أمعاناً في التعميم والنأي عن الذاتية ليكون الهَمُ عنده حتى على مستوى الاحساس عاماً ( يا مساخة الحلة يوم ناس أمنة فاتو ) .
( يا مساخة الحلة ) هذا هو منادى لمضاف إذ أن الحلة مضاف إليه ، ولكن الغريب في النداء هنا أنه موجه لغير سامعٍ مما يجعل الأمر خارجاً عن نطاق المنادى كما هو واضح من ظاهر النص ، ولكن النداء هنا يكون لإظهار الحالة التي غدت عليها الحلة بعد الرحيل كئيبة وفاقدة الطعم ، فلم يجد شاعرنا بداً من استهجان وضع كهذا إلاّ باستخدام النداء في تركيب غريب ، والدراجة السودانية مليئة بمثل هذا الاستهجان الذي يأتي مقترناً بالمنادي مثل أن نقول : ( يا شناة أهلك ) استهجاناً من قبح الشخص الماثل أمامهم .
تبع غياب ( ناس أمنة ) تمرد الطبيعة في كل عناصرها المبهجة التي كانت تصنع الفرح كأنما شاعرنا أراد القول إن هذه العناصر تأخذ بريقها وجمالها وتأثيرها عند وجود ( ناس أمنة ) فهن وعناصر الطبيعة يقفن جنباً إلى جنب لملء الكون بهجة وجمالاً .
فالقمر غاب عن الظهور وتأثرت لغيابه رمال الحي التي كانت تتخذ من ضوء القمر نوراً وأنيساً ، وفُقِد صوت القمري الشجي على هامات الأشجار ، فكل هذه العناصر المكونة للطبيعة ومعها ناس أمنة لم يدر الشاعر أين ذهبت وولت ، وكل هذا إمعاناً في إظهار ما ينتابه من مشاعر فياضة وقلق واضطراب لغياب الأحبة الذي تبعه غياب كل عناصر الطبيعة الصانعة للحياة الحقة الممتعة في الحلة .
(والقمرة غابت في عشياتو
ولا فرشت رمال الحي لجيناتو
والقمري عشعش ما قوقن جنياتو
ما قوقن قوقن جنياتو
ولا معروف مكان راحو
وين فاتو ) .
يواصل شاعرنا في التغني بالطبيعة ومناظرها الخلابة : بهجة النيل ، والشتلات على ضفافه ، وشجر النخيل ورياح أمشير تحرك أغضانه ، والليل المسافر مع النجيمات ، والصباح المستبد الممزوج بطلة ( ناس ليلى ، وفاطمة الفنجري، وأمنة ) كل هذا يخلق دالية كأنها مدججة بغناء الشحارير المصابة بالندى ، والوجه الصبوح لدى أمنة ورفيقاتها .
وهنا يتسأل شاعرنا عن حبه لمن يكون لكل العناصر المذكورة ، وهذا تأكيد على ارتباط وثيق ومتين بالنيل وعليله ، وأشجاره ، والنخيل الهاشة أغصانه للناس ، وبأمنة وصوحيباتها ، فعندما يعمد الليل بالسفر حاملاً معه النجوم في رحلته اليومية يبدأ الشوق في الرحيل باحثاً عن ( ناس أمنة ) .
وبعد هذا البوح الشفيف ، وهذا الوصف الدقيق للحال والمحل يتساءل شاعرنا هل يا ترى أن ( ناس أمنة ) يدركون كيف هي حال المحب المغرّب ، أم أنهن ما عرفن ما يعتور صاحبنا ( سيد الوجعة ) وكل المحبين من الشوق والحب والحنين ؟!
(نحب ياتو ... نسيب ياتو
نحب النيل وشتلاتو
نحب نخلا تهش للناس زعيفاتو
نحب بنوتنا لما الليل يسافر بنجيماتو
وانتو هناك يا ناس امنة
سيد الوجعة ما عارفين حكاياتو )
تلك كانت هي مرثية الأحاسيس الموغلة في التغريب والتهجير ...
جاءت تلك التي في الشمال بفعل العسكر ، وها هو التاريخ يعيد نفسه عندما أقدم هذه المرة العسكر ( الأسلامويون ) على قطع جزء من الوطن الحبيب ليكون الجرح أعمق لأن تغريب أهلنا في الشمال كان داخل حدود الدولة الواحدة ، فرأينا كيف ولَّد فيهم تلك المرارات التي داست على أحاسيسهم كما داست مياه السد مرتع ذكرياتهم وتاريخهم ..
تغريب أهلنا في الجنوب أكبر في التأثير لأن التغريب هذه المرة يبعد بعيداً ، وينقل حياة شعب عاش في الجنوب حراً وفي الشمال حراً بين ليلة وضحاها إلى ذكريات قد لا تتاح لك الفرصة لمعاودة ربوعها لأن الأمر ساعتها سيكون متعلقاً بسياسة الحدود ومحمي بحراسها ، فلن يبقى لك الاّ أن تغلق الصدر وتفتح الدرب للدموع لتبكي ذكرياتك وحيداً بعيداً عن أهلك وأحبابك وجيرانك وأصدقائك في الشارع والحلة والمدرسة والعمل والسوق حيث أن الكل أصبح أجنبياً عن بعضهم البعض بجرة قلم عسكري بليد في الطرفين .
نشر بتاريخ 18-02-2012
الشاعر الراحل سليمان عبد الجليل عبيه رحمة الله


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.