* ومحمد بهنس تسوء حالته النفسية لدرجة الصمت المطلق و(الهيمان) في شوارع الخرطوم قبل القاهرة ويفقد اتزانه الذي يجعله يقود كمثقف ومبدع ولا يقاد ...وهنا قمة المأساة، الملهاة لبهنس .. و(بهانس) كثر مضوا على ذات الدرب ولقوا نفس النهاية بين الجنون والموت وفقدان الاتزان النفسي والبوصلة الاجتماعية العقلانية التي تجعل من أي واحد منهم (أي أولئك البهانس) مشروعا مكتملا للمثقف الايجابي الفاعل لا المفعول به ...الذي يسعد ولا يشقى بابداعه. * أين رواية بهنس ؟واين قصائده ؟واين لوحاته ؟واين صوره ؟...من طبعها ؟من نشرها ؟ من اشتراها ؟من سوقها ؟....لم يتحول ابداع بهنس الى مصدر مادي يدر عليه دخلا محترما يجعل ابداعه وعبقريته مصدرا لاتزانه وتميزه وزيادة عطائه ..فيكتب بدل الرواية الواحدة ثلاثة و بدل القصيدة الواحدة دواوين ....يكتب لجمهور يحبونه ويحبه ينفعلون بكل منتوجه الادبي والثقافي يتلقفونه ويشترونه من المكتبات ...تجرى معه اللقاءات التلفزيونية وتتابعه فلاشات الكاميرات كاديب كبير ...هذه لم تحدث لاي اديب او كاتب او مبدع اومثقف حقيقي وغير مرائي للنظام السياسي وجزء من انتهازيته وسوئه ...ولعدد قليل من الادباء والمبدعين منهم عبد العزيز بركة ساكن والذي استطاع ان يوفق بين منتوجه الابداعي الروائي وبين اتزانه العقلي والنفسي بدرجة تجعله يطور ويتطور في ابداعه حتى وهو داخل السودان رغم المضايقات والكبت والحجر المتواصل لرواياته ... * وهذه الحالة تحدث عنها الاديب والكاتب الكبير الراحل الطيب صالح في احد حواراته اذ قال انه كان يمكن ان يكون موجودا في السودان بابداعه لكنه كان سيكون مدمنا سكيرا او مجنونا فقيرا يجوب الشوارع وهجرته الى عالم يفهم ويعي ما يكتبه الطيب صالح ويروج له ويكفيه ماديا وأدبيا واجتماعيا بأن يجعله في مقدمة تلك المجتمعات وعلى رأسها لا على مؤخرتها كما يحدث عندنا هنا ...وكما حدث لمعاوية نور ولعشرات بل مئات كانوا اسوأ حظا ببقائهم او عودتهم للسودان ..وفرصة بهنس بأن يكون بهنس الآخر لو أنه بقي في فرنساه تلك أو هاجر الى بريطانيا أو استراليا ...ولكان كل المجتمع يدفعه الى اعلى ولكنا نتلقف منتوجه الابداعي بشئ من الحبور والسرور ..ان هذا المبدع ..الرائع ...الكاتب من بلدنا السودان وهذه اقصى احتفائية يمكن فعلها .... * منذ أن فقد معاوية نور عقله ومعه مشروعه الثقافي الاجتماعي فيه خلق طبقة مستقلة من المثقفين والمبدعين والمستنيرين تقود التغييرفي السودان ...وهناك مجتمع ناقص ،على الرغم من انه العقل والوحي لاي امة واي شعب وهو مجتمع الثقافة والابداع من كتاب وادباء وروائيين ورسامين وشعراء ومؤلفين وفنانين وموسيقيين وغيرهم ..الخ ،وهذا هو المجتمع الذي قاد عصر النهضة والتنوير في اوربا ...في السودان لم يستطع أن يصنع نفسه كمجتمع صفوة مستقلة لاسباب سياسية في المقام الاول ..جعلت العقل المثقف يهرب اما تابعا وخادما للسلطة السياسية واما التقليدية المتخلفة او المستبدة وكان من الاولى أن يكون قائدا وهاديا لكل السودان . * رحم الله بهنس وابدله قسوة مالاقى في الحياة خلودا سرمديا هانئا ....ومالم نحيي مشروع معاوية نور ونخلق مجتمعا متحضرا ومتمدنا يؤمن بدور المثقف وحقوقه المادية والادبية ويقود حركة التنوير والوعي عبر الكتاب وكل الفئات فان مأساة بهنس ستتواصل كل يوم وكل لحظة بأشكال أخرى وتحت ظروف ومسميات مختلفة ..وقد تكون اقل حظا من بهنس ولا تجد حتى هذا الزخم الاعلامي والتعاطف الانساني الكبير الذي حظي به بهنس وللأسف أنه لم يعد يهتم ...