كانت "مكة" على موعد مع حدث عظيم كان له تأثيره في مسيرة البشرية وحياة البشر طوال أربعة عشر قرنًا من الزمان، وسيظل يشرق بنوره على الكون، ويرشد بهداه الحائرين، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. كان ميلاد النبي "محمد" صلى الله عليه وسلم أهم حدث في تاريخ البشرية على الإطلاق منذ أن خلق الله الكون، وسخر كل ما فيه لخدمة الإنسان، وكأن هذا الكون كان يرتقب قدومه منذ أمد بعيد. وفي (12 من ربيع الأول) من عام الفيل تشرف الكون بميلاد سيد الخلق وخاتم المرسلين "محمد" صلى الله عليه وسلم. وقد اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم من أسباب الشرف والكمال ما يوقع في نفوس الناس استعظامه، ويسهل عليهم قبول ما يخبر به، وأول تلك الأسباب كان شرف النسب "وأشرف النسب ما كان إلى أولي الدين، وأشرف ذلك ما كان إلى النبيين، وأفضل ذلك ما كان إلى العظماء من الأنبياء، وأفضل ذلك ما كان إلى نبي قد اتفقت الملل على تعظيمه". دنا عمرُه - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأربعين، وقومه الذين عرفوه حدثًا وعرفوه شابًا، كانوا يقرؤون في صحائف سنية الوديعة، خلقًا كريمًا لم يعهدوه في الكهول ليروه في الشباب، وكانوا يدعونه بالأمين والمأمون، ويودعون لديه كل غال وعزيز، طفولة بريئة وشباب نزيه يكفي في مدحهما أنهما لم يخالطهما شيء من أباطيل الجاهلية وترهاتها. وبينما كانت الكتب المقدسة تتحدث عن بعثة نبي كاد يطل حينئذ على العالم المضطرب، كان سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يعبد الله وحده وينبذ ما كان عليه قومه، وهو على يقين أنهم لفي ضلال مبين. يمضي الناس إلى ما يمضون إليه ويهفو الشباب إلى لهوهم وقصفهم. ويناجي عليه السلام الكون أرضه وسماءه ويقرأ فيهما ما سطرته يد الخالق المبدع الذي أحسن كل شيء خلقه إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنفَسُ ما عَرفتِ الإنسانيَّة من زعماء، وأكرمُ ما ظهر منها من رجالٍ عُظماء، إنه سيِّد المرسلين، وأشرف النبيِّين، وخيرُ الهُداة والمرشدين، وأعظمُ الدعاة والمصلحين، وهو الأُسوة الحسنة للمؤمنين بالله واليوم الآخر. قال الله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. ولا بُدَّ لِمَن يريد التأسِّيَ واتِّباعَ الرسول وطاعتَه، لا بُدَّ له من أن يَعرِف تلك السيرةَ العَطِرة التي تناقلتْها الأجيالُ معجبةً بحياة صاحبها - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأن يُلِمَّ بجوانبِ هذه السيرةِ المُطهَّرة، التي جمعتْ أقوالَه وأفعالَه وتقريراتِه. إنَّ سيرة النبي العظيم - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانت على مرِّ العصور عند جماهير المسلمين منارةً مُضيئةً تدلُّهم على طريق الحق، وتأخذ بأيديهم إلى المستوى الكريم الذي يبلغه إنسان. وممَّا يحِقُّ لنا أن نفخر به: أنَّ هذه السِّيرة قد دُوِّنَت كاملةً، ووصلت إلينا شاملةً لم تدَعْ جانبًا من جوانب حياته - صلَّى الله عليه وسلَّم - دون أن تسجِّلها، حتى إني لأحسبُ أن تاريخ العُظماء في الدنيا لم يعرف رجلاً عظيمًا نقل أصحابُه أخبارَ حياته في كلِّ جوانبها بدقَّة وأمانة، كما نقل أصحابُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وزوجاتُه - رضي الله عنهنَّ - تلك الأخبارَ الكريمة، نقلوها فدوَّنها العلماءُ في كتب السُّنة والسيرة، وأذاعوها بين الناس. ولقد سجَّل كِتابُ الله العظيم جوانبَ متعدِّدةً من حياة هذا الرسول العظيم، تتَّصل بدعوته قومَه، وبجهاده وغزواته، وبعلاقته بأهله مِن أولاد وأعمام وزوجات، وبِصِلَته بأصحابه، سجَّل ذلك كلَّه كتابُ الله، فكان قرآنًا يُتلَى ويُحفَظ، ويُقرأ ويُتأمَّل، وسجَّلتْه كذلك كتبُ السُّنة والسيرة - كما ذكرنا - بدقة واستقصاء وشمول. إن التأسِّي بالرسول واتِّباعه وطاعته أمرٌ واجب، يجب على المسلم أن يقوم به وإنَّه لشرفٌ عظيمٌ لهذه الأمَّة المسلمة أن يكون سيِّدُ الخلق وأكمل البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم - قدوتَها وإمامَها. إننا نستطيع أن نُحقِّق لأنفسنا أمنيَّةً يعِزُّ وجودُها، وهي: أن نُتيحَ لأنفسنا أن ترى الاستقامة والسموَّ والإباء، والحق والقوة، والورع والعدالة، والعقل والحكمة، والخلق الحسن والتواضع، والزهد والإيثار، والشجاعة والبلاغة والبيان، والصبر والإحسان، أن ترى ذلك كلَّه مثلاً أعلى تسعى نحوَه، وتتأسَّى به. وماذا يقول المادحون والواصفون في عظمة هذا النبي العظيم، بعد أن أثنى عليه اللهُ ربُّ العالمين في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]؟! ولله درُّ القائل: أَيَرُومُ مَخْلُوقٌ ثَنَاءَكَ بَعْدَ مَا أَثْنَى عَلَيْكَ الوَاحَدُ الخَلاَّقُ كان - صلى الله عليه وسلم - زاهدًا في الدنيا، معرضًا عن مظاهر العظمة حتى في الفوز والنصر، كثير العبادة، دائم الخشية، عفيفًا، نظيفًا، صادقًا، أمينًا، شجاعًا، مقدامًا، حازمًا، كريمًا، سمحًا، عادلًا، ثابتًا في الشدائد، حريصًا على الوقت، يغضب الله لا لنفسه، دائم البشر، كثير الابتسام، - ما لم ينزل عليه القرآن أو يعظ أو يخطب - واسع الصدر، لين العريكة، حافظًا للعهد، موفيًا بالعهد، جميل الصمت، صادق اللهجة، حلو الحديث، واضح الجواب، محفوظ اللسان، حكيم الكلام، يعرض عن الباطل ولو أجمع الناس عليه، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ، إذا تكلم جلساؤه بشؤون الآخرة تكلم معهم، وإذا خاضوا بأمور الدنيا خاض معهم، أنيس العشرة مع أهله ومع الناس، يجلس حيث ينتهي به المجلس، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنها، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، يقبل الهدية ويكافئ عليها، ويتلطف بخواطر أصحابه، ويتفقد من انقطع منهم عن مجلسه، ويقبل عذر المعتذر، ويجالس الفقير، ويجيب دعوة العبد، غير مداح ولا عياب ولا صخاب، يحذر الناس ويحترس منهم، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، يبدأ من لقيه بالسلام ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ويدعوهم بالكنى وأحب أسمائهم إليهم، ويكني من ليس له كنية، ويسلم على الصبيان، ويباسطهم ويعود المرضى ولو في أقصى المدينة، ويخفف عن البائسين، ويشيع الجنائز، ولا يمضي له يوم إلا سطر له التاريخ فيه صحائف عمل مبرور بمداد من نور. وصفوة القول كان خلقه القرآن وأجدر بمن كان هذا خلقه أن يبعثه الله سبحانه ليتمم مكارم الأخلاق. ام/ام آ