حوار: آمنة السيدح-أميمة عبد الوهاب - تصوير: سفيان البشرى بعد تغير بوصلة العالم من الاهتمام بالسياسة ومتابعة قضاياها الشائكة الى الاهتمام بالاقتصاد خاصة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت في 2008 وألقت بظلالها على كل أنحاء العالم وأقامت الدنيا ولم تقعدها بل إن بعض الاقتصاديين يذهبون الى وضع الأسباب الاقتصادية في الخانة الأولى لمسببات الثورات العربية ويضربون بالبوعزيزي الذي أحرق نفسه في سبيل الحصول على لقمة عيش وهو سبب اقتصادي بحت. وبإسقاط هذه القضايا على السودان والبحث في بعض القضايا المهمة التي تؤثر بصورة مباشرة في الاقتصاد خاصة وأن الاقتصاد السوداني قد مر بمشاكل كثيرة أقعدته عن النهوض والنمو منذ استقلاله.. وقد تقلبت حالاته ما بين الحكومات الديموقراطية والعسكرية ووصل ذروة انهياره إبان الديموقراطية الأخيرة والآن والجميع ينتظرون الحدث الأكبر وهو الانفصال الكامل بين الشمال والجنوب وبالطبع هذا الأمر له ما بعده.. فهي نقطة مفصلية مثلها مثل بدايات الإنقاذ الأولى التي واجهت صفوف الخبز والبنزين وكروت السكر وغيرها من المشاكل الاقتصادية الأخرى.. «آخر لحظة» حاولت فتح الملفات الاقتصادية مع الخبير في الاقتصاد الإسلامي د. بدر الدين طه أحمد إبراهيم القيادي الإسلامي الذي عمل في المجالات الاقتصادية كافة فقد تدرج في وزارة المالية والاقتصاد الوطني حتى وصل لمنصب وكيل الوزارة وعمل وزيراً للدولة بوزارة التجارة 1988 وعضو الجمعية التأسيسية 86-1989 ثم عمل والياً للخرطوم 94-96 وغيرها من المناصب الأخرى.. في البداية رحب الأستاذ مصطفى أبو العزائم رئيس التحرير بالدكتور بدر الدين طه في صحيفة «آخر لحظة» فإلى الحوار الذي امتد لساعات وكانت هذه الحصيلة.. حدثنا عن الاقتصاد السوداني منذ الاستقلال وحتى قيام ثورة الإنقاذ في 1989؟ - الاقتصاد السوداني منذ الاستقلال إلى ما قبل الإنقاذ كان ضعيفاً جداً في البنيات الأساسية مثل الكهرباء والطرق والمياه والاتصالات وضعيف في الموارد ودليل الضعف أنّه عندما جاءت الإنقاذ كانت كل البنيات الأساسية مهدمة تماماً حتى الشوارع كانت مهدمة ولا يمكن الاتصال داخل الخرطوم، وإذا ذكرتم في 89 عندما جاءت الإنقاذ لم يكن هناك دقيق وكان هناك شح في المواد البترولية ومعاناة شديدة نتجت عن ضعف في البرامج والإرادة السياسية أما نظم عسكرية ضعيفة التخطيط قبل الإنقاذ أو نظم ديموقراطية كانت مشغولة بالسلطة وبعقد وفض الائتلافات، وكان هناك صراع على السلطة ولم تكن هناك تنمية تذكر، وعدد الجامعات والمدارس الثانوية كان مسألة مضحكة وكان هناك فائض تربوي ضخم جداً من خريجي المدارس الابتدائية والثانوية ووصلت البلد حقيقة لمتاهات وكان في الجمعية التأسيسية اتجاه سياسي غير اتجاهنا حيث كنّا نمثل الجبهة الإسلامية . وكانت الأوضاع منهارة تاماً ولا اعتقد أن تستمر الديمقراطية في حكم البلاد بهذه الصورة الضعيفة المزرية، وكانت السوق السوداء منتشرة ولا تتوفر السلع الأساسية للمواطن وكان التاجر يعطيك من تحت التربيزة إذا كانت تربطك به علاقة هل المحاربة الاقتصادية كانت جزءًا من التدبير لانقلاب الإنقاذ؟ حيث وصل الأمر إلى اتهام الجبهة الإسلامية بأنها كانت تشتري السلع وتلقي بها في النيل؟ - هذا نوع من الحرب النفسية على الجبهة الإسلامية ولا يمكن أن يأتي فعل كمثل ذلك من سياسيين إسلاميين قلبهم على البلد كيف نفعل ذلك ونحن أحوج للمال ليتقوى به الحزب وهذا غير صحيح وغير منطقي، وحتى الآن لا يمكن أن يكون هناك حزب في المعارضة يكلف نفسه مئات الملايين ويلقيها في البحر أولى أن يدعم بها حزبه ويحسن بها حاله، بالعكس نحن كنّا في الجمعية التأسيسية نكشف عن كل سوءات الحكم وكنا نطرح بدائل للأسف الآن المعارضة لا تطرح بدائل فقط همها إسقاط الحكومة دون أن تقدم برامج بديلة ولم تقدم نفسها كبديل ولم تخاطب الناس من خلال مواقعها المختلفة وتدير فقط حرباً من أجل المواقع. حدثنا عن تدبيركم لانقلاب 89 خاصة وأن الحكومة وقتها لم تكن منهارة اقتصادياً فقط وإنّما سياسياً أيضاً، وكيف كنتم تنظرون للانفاق الاقتصادي؟ - هذه المسائل بتمضي مع تدهور النّظام السياسي، في البداينة كنّا نعمل كمعارضة داخل البرلمان ومعارضة إعلامية ومعارضة في الشارع حتى ننبه الشعب الى ضعف الحكومة لنلفت انتباهه لضعف الحكومة وضرورة التغيير السلمي، وكل ما ضعف النظام أصبح استقرار البلاد مهدداً خاصة وأن التمرد في ذلك الزمان وصل الى أعتاب كوستي، وكان ذلك تهديداً أمنياً للبلاد، الاقتصاد منهار وحدث اضطراب في المجتمع حتى داخل الخرطوم وعندما تداركنا ذلك نفرت أنا ومعي مجموعة من القيادات مثل المشير سوار الذهب والمرحوم يوسف شبيكة وكوّنا الهيئة الشعبية للدفاع عن العقيدة والوطن وكان رئيسها سوار الذهب ونائبه يوسف شبيكة وكنت أمثل الأمين العام وكان تمثيلها قومي إلا إنّي دخلتها بدفع من الجبهة الإسلامية وقدمت أعمالاً كبيرة والتقينا أعداداً كبيرة من قيادات ولاية الخرطوم والمواطنين وبدأنا عملاً منظماً للدفاع عن الأحياء، أحضرنا الشباب والمقتدرين ووضعنا خطة كيف يحمي كل حي نفسه ويكون له مخزون من المواد التموينية يحمي بها نفسه من الخطر داخل ولاية الخرطوم خوفاً من حدوث أي تفلتات عنصرية تهدد أمن العاصمة، وأنا أحيي الأخ المشير سوار الذهب الوطني الكبير وأترحم على روح الأخ يوسف شبيكة الذي كان رجلاً فريداً ومنفقاً وقلبه على الوطن وأحيي من هنا أسرته أيما تحية. معارضة الأمس كانت تمتلك الخيال السياسي، هل تفتقر معارضة اليوم للخيال السياسي، مثلاً خيال المعارضة السياسية في ذلك الوقت جعلها تتجه لدعم الجيش وإنشاء الهيئة الشعبية وإنشاء كتائب شعبية؟ - أعتقد أن طلائع الجبهة الإسلامية تؤهلها تجربتها منذ أكتوبر التي يمكن أن ننسبها للقطاعات المثقفة ولديها تجربة تنظيمية عالية وكانت تخطط تخطيطاً استراتيجياً ولديها كوادر متخصصة في كل مجال من مجالات الحياة ولديها تخطيط إستراتيجي ولديها كادر ملتزم يستجيب لكل النداءات، ذلك في المعارضة وعندما جاءت الإنقاذ أحدثت هذا التغيير الضخم الذي تشهده البلاد. وحتى أكون منصفاً لن أقول إن المعارضة ليس لديها خيال ربما يكون لديها ولكن الحقيقة أحلامها ضعيفة لأن كثيراً من قياداتها السياسية والمتعلمة واللامعة والناضجة سياسياً اختفت عن الساحة وأغلبها بالموت أو المرض أو الانزواء أو الإحباط.. نحن واكبنا هذه الأحزاب وهي الآن ضعيفة جداً واختفى التخطيط لديها والدليل أنه ليس هناك حزب يطرح برنامجاً في الساحة «برنامج معارضة موازي لبرنامج الحكومة» كل الموجود أحزاب ضعيفة لا تستطيع أن تقود الساحة السياسية بمفردها، اجتمعوا في تجمع همه فقط إسقاط الحكومة ثم من بعد ذلك الى أين؟ الى الاختلاف.. لأنها اجتمعت من قبل تم اختلفت ثم اجتمعت ليس هناك برنامج موحد أو طرح موحد لكيفية الإسقاط بالقوة، أما إذا كان بطريقة ديموقراطية فلابد أن تعد نفسك منذ الآن إعداداً كاملاً سياسياً وفكرياً ومالياً لدورة جديدة تحاول أن تكتسح فيها الانتخابات. هل كنت ضمن المخططين للانقلاب أم علمت به فيما بعد؟ - كنت أعلم بالانقلاب وكنت في القيادة في ذلك الوقت وأعتقد كنت قريباً من الأحداث في فترة الانقلاب وما بعد الانقلاب وترتيب الدولة والمسألة السياسية والاقتصادية خاصة في معالجات موضوع السلع الغذائية لأن البلد كانت «فاضية جداً» وكنت أحد المسؤولين الأساسيين من تدبير السلع التموينية وتنفيذ البطاقة التموينية ووضع السياسات الاقتصادية التي تعالج كثيراً من التشوهات في الاقتصاد السوداني حتى تنطلق الإنقاذ في المجال الاقتصادي. كيف كانت الإنقاذ تغطي على طرحها للنّاس على أنها إسلامية وكنت أنت أحد القيادات المعروفة بين الإسلاميين؟ - في الفترة الأولى كانت كل القيادات التاريخية خلف الكواليس ولكن أنا كنت من القلائل الذين دخلوا في المشاركة في وقت مبكر منذ شهر سبتمبر 1990 وتم تعييني مديراً للبنك الزراعي لم يؤكد أن الإنقاذ بدأت بالاهتمام بالزراعة وبدأنا بعد ذلك في عمل ثورة زراعية لأن الزراعة تأخذ الموقع الريادي من الاقتصاد السوداني، وفعلاً القيادات الإسلامية التاريخية لم تكن موجودة والتي شاركت كانت موجودة ولكن لم تكن معروفة أول مجلس وزراء تشكل من كوادر الجبهة الإسلامية وكذلك مجلس الثورة ولكن مجلس الوزراء كان معظمه من كوادر الحركة الإسلامية لكنها غير معروفة كانت ملتزمة في الجامعات وحتى في الحياة الاجتماعية. أبرز ملامح النظام الاقتصادي للإنقاذ؟ - الحقيقة عندما جاءت الإنقاذ كانت كانت السياسات الاقتصادية الموجودة أقرب الى النهج الاشتراكي غير أنه إبان نظام نميري الاشتراكي كانت هناك ليبرالية ولكن لم يكن لها فكر اقتصادي كان يخطط لها موظفو الجهاز التنفيذي وكان معظمهم من اليساريين، لذلك كانت أغلب السياسات موجهة تتحكم الدولة في السلع والخدمات وكانت تملك مؤسسات كان بالأحرى أن تكون في القطاع الخاص . الدولة هي التي كانت تشرف على السلع لذلك الاقتصاد تكبل لأنه في بداية التسعينيات إنهارالنظام الاقتصادي ، بسبب سياساته القابضة والموجهة والتي لا تدفع الى التحفيز رغم أنهم بشروا بمفاهيم اقتصادية نظرية. الإنقاذ ورثت نظاماً اقتصادياً منهاراً أول ما فعلته الإنقاذ فكت الأغلال وأعلنت حرية الاقتصاد وأعطت مساحة للقطاع الخاص ودخلت في خصخصة المشاريع رغم الهجوم عليها ربما لم يكن تناول بعض مشاريع الخصخصة بالنضج الكافي فبعضها أحدث ثورات في البلد بعضها لم يكن ثابتاً وحدث فيها تأرجح، وأنا أقول إن سياسات التحرير الاقتصادي ناجحة إسلامياً وعالمياً لأنها تتيح للقطاع الخاص أن يبيع ويشتري والتخطيط يترك للدولة بجانب المراقبة وأخذ إيراداتها من الضرائب ومن المعادن ومن أرباح المشاريع الكبيرة. أول الإيجابيات كانت توفر السلع لأن القطاع الخاص يبحث عن السلع ويتنافس ولاحظنا كيف كان الإنسان يذل في الحصول على سلعة، الإنقاذ لم تحرر الاقتصاد فحسب وإنما حررت الفرد السوداني. صحيح هناك ارتفاع في أسعار بعض السلع لكن هناك وفرة بسبب تحرير الاقتصاد وفتح التجارة والاستيراد أيضاً حرر الاقتصاد والناس من الصفوف كان الناس يبيتون الليالي في صفوف البنزين والرغيف أنا أحد الذين كتبوا ووضعوا البرنامج الثلاثي للإنقاذ الوطني قبله كانت هناك مراجعات وإصلاحات. وجاء البرنامج في التسعينيات استمر «3» أعوام بعد ذلك جاءت برامج لمدة «3» سنوات و«5» سنوات وعلى هذا المنوال ولكنه كان فيها إضافة الإنقاذ في بداياتها انعشت الاقتصاد الزراعي وأولته اهتمام بالغ وادخلت آليات وتركترات وحدث إقبال عليها وزادت أفرع البنك الزراعي وزاد التمويل واستمرت فترة حتى جاءت بعد ذلك بعض الظروف. رغم الحصار الذي حدث للإنقاذ لكن هذه السياسات هي التي أنقذت الإنقاذ من ويلات الحصار الاقتصادي. كيف استطعتم التغلب على الحصار الاقتصادي؟ - نحن نؤمن بالقضية الإسلامية وبالبعد الروحي والرباني لها ومن يتق الله يجعل له مخرجاً.. الإنقاذ جاءت بالشريعة الإسلامية وهيأت الشارع والمجتمع والمساجد للإقبال على قيام الليل والصيحات الجهادية فكان أن أعطى هذا المد الإسلامي الاول دفعة كبيرة جداً. أيضاً كان هناك تنظيم في طريقة توصيل المواد الرئيسية للمواطنين، في الأول عملت البطاقة التموينية ولم يكن هناك أي شيء في البلد إلا أن كل أسرة كانت تجد موادها وافرة، وبعد تفعيل سياسة التحرير أصبحت هناك وفرة في السلع وأقبل التجار والقطاع الخاص وبعض القطاعات الخارجية لأن سياسة التحرير تعطيهم منافسة وعائداً معقولاً مما جعلهم يوفرون السلع، بجانب تعاون بعض المنظمات والجهات التي كانت لا تخشى الضغط الغربي تعاونت مع السودان ووفروا له بطريقة إسلامية كثيراً من مدخلات الإنتاج والآليات الصناعية الى أن حدث الانفتاح بعد البترول.