تفادياً لسوء الفهم أو عدم الفهم أرجو أن أبدأ بتوضيح حقيقتين مهمتين الأولى أنني لم اتعاطى أو اتفاعل مع الشيشة طوال حياتي وحتى اليوم، الثانية أنني لم ولا ولن امتلك أو أدير محلا أو فندقا أو مقهى للتعامل مع الشيشة كنت قد كتبت قبل أيام قليلة موضوعاً عن بترول الأنابيب الذي يشكل أم المشاكل العالقة بين الشمال والجنوب، لأن المعضلة ليست في الأنابيب إنما في البترول داخل الأنابيب، لأن بترول التانكرز إلى أي جهة من الجنوب إلى يوغندا، كينيا، أثيوبيا لا يشكل معضلة. كذلك جمر الشيشة هو المشكلة وليست الشيشة إذ أن الشيشة كجهاز غير ممنوعة ومتوفرة في المحال التجارية وتبغها متواجد بكثرة بل ينتج في الخرطوم، إذن المشكلة في الجمر «نار الفحم». كنت قد أثرت موضوع الشيشة في أحد الاجتماعات المهمة ولم أتلق أي إجابة عن لماذا تم منع الشيشة في الخرطوم فقط، وهل تمت دراسة سابقة للقراء بصورة علمية وهل تم رصد الآثار السالبة بعد صنعها.. نعم التدخين بصفة عامة عادة ضارة تحاربه الدول الراقية بالأساليب الراقية التي تحترم إنسانية المواطن وتراعي شعوره والضرر المترتب على المنع الفوري القسري العشوائي كما حدث في قرار منع الشيشة.. سأورد في المقال بعض من الآثار السالبة للمنع من الناحية الاجتماعية والاقتصادية. أذكر في عام 1965 وأنا طالب في السنة الاولى بجامعة الخرطوم وفي مناظرة علمية في قاعة الامتحانات الحالية بين الدكتور التجاني الماحي وتلميذه الدكتور طه بعشر عليهما الرحمة عن «هل الدعارة ضرورة اجتماعية».. التجاني الماحي المعروف باستقامة في السلوك قل أن تجدها في بشر فهو لم يدخن ولم يتعاطى الخمر ولم يعرف عنه أي سلوك غير سوي وتبوأ مناصب علمية اجتماعية رفيعة داخل السودان وخارجه.. داخل السودان كان عضواً في مجلس رأس الدولة وخارجه عضو في العديد من المنظمات الدولية، التجاني الماحي كان رجلاً متديناً بالقناعة والعقل الكبير لا بالفطرة والفكر الضيق كان التجاني الماحي مدافعاً عن أنها ضرورة اجتماعية بالرغم من قناعته التامة بسوئها إذ قال -المحاضرة كانت باللغة الانجليزية: «Its legal absence is more dam aging than its monitored presence» أي أن غيابها بالقانون أكثر ضرراً من وجودها المراقب- أي ثبَّت في هذه المقولة الضرر في الحالتين ولم يقل على الإطلاق إن الدعارة عادة أو سلوك حميد، لأنه قال الوجود المراقب والمحكوم بعزل هؤلاء الجانحات عن المجتمع السوداني، لأنهن يمارسن مهنتهن هذه ويسكن في أماكن معزولة جغرافياً ولا وقت لهن للاختلاط مع المجتمع، أما منعها بالقانون لا يبترها أو يزيلها لأنها من أقدم المهن في التاريخ البشري ولم يسلم أي عصر من العصور في كل أنحاء الدنيا من وجودها. ماذا حدث بعد المنع القانوني في السبعينات من القرن الماضي، تحققت رؤية بروفيسور التجاني الماحي إذ انتشرت هذه الظاهرة وسط الأحياء المحافظة واندست الجانحات وسط الأحياء، وبعد أكثر من ثلاثين عاماً من المنع وصلت هذه الممارسات إلى الجامعات والداخليات والأسر.. هذا بالطبع لا يعني بأي حال من الأحوال المطالبة بعودتها، إذ كان حديث بروفيسور التجاني الماحي قبل أكثر من أربعين عاماً والسودان كان دولة علمانية والدعارة موجودة، والآن السودان دولة إسلامية تطبق الشريعة والدعارة الرسمية غير موجودة والشريعة تحرم الدعارة «الزنا» بنصوص قطعية وعقوبات حدية، ولكن الشيشة «التدخين» غير محرم بأي نص أو عقوبات، وهي موجودة في كل الدول الإسلامية بما فيها السعودية ولا تشكل أي جريمة، الآن بالنسبة للشيشة يحدث ما هو أسوأ، قبل المنع كانت الشيشة تقوم في أماكن راقية سكبت فيها أموال طائلة للحصول على تصديقها ولإعدادها بشكل لائق وإضاءة لا تقل عن إضاءة الاستادات، وأصبحت هذه الأماكن والفنادق تجذب أعداداً كبيرة من مجتمع الخرطوم تشكل بنسبة 99% من زبائنها طبقة مستنيرة من خريجي الجامعات والمعاهد والكليات العسكرية ورجال الأعمال الشباب الواعد.. تمارس هذه الشريحة المهمة في المجتمع تعاطي الشيشة بكل أدب وانضباط ومسؤولية وهدوء مع تناول أكواب الشاي، القهوة، الحليب، الايسكريم وبعض المأكولات الخفيفة حتى تستهلك على الأقل ساعتين في اليوم من الراحة النفسية بعيداً عن أجواء العمل والمنازل المملة القاسية ويتم في هذه الجلسات تبادل المعرفة والمعلومات العالمية والعلمية الأمر الذي يساعد الشباب في إضافة بعد وعمق جديد في الحياة. بعد المنع ماذا حدث انتقلت الشيشة إلى الشقق المفروشة والمنازل المحافظة بعيدة عن فضول البشر، وأصبح ميسوراً تعاطي الحشيش فيها بدلاً عن «المعسل» إذ أن رائحة الحشيش النفاذة تجعل تعاطيه في أماكن عامة ضرباً من المستحيل.. واصبح كذلك الاختلاط والممارسات الضارة حقيقة بين الشباب والشابات، ودخلت الشيشة المنازل الآمنة المحافظة، وأصبحت جاذبة لفضول وحب استطلاع المراهقين والبنات لرؤية هذا الشيء العجيب الذي جلبه أخوهم الكبير أو والدهم، وبالطبع سيحاول كل منهم التجربة في الخفاء حتى يدمن. الآن الشقق والمنازل المؤجرة كثيرة والبنات يدخلنها في أزياء رجال ولا أحد يحرك ساكناً والمجتمع الطاهر يهتريء من الداخل بسبب القرارات والنزوات الشخصية ولا أحد يعير المجتمع وقابليته للتأثر السريع أي اهتمام ويركز على القشور والمظاهر ونترك الأصول والمخاطر.. في أمريكا جمعية قوية مدعومة من الدولة تمنع الجانحين من الزواج حتى لا يلدوا جانحين جدد على المجتمع. هذه ناحية، الناحية المهمة الأخرى وهي ملاحظة أن متعاطي الشيشة من الشريحة الميسورة في المجتمع في أغلب الأحيان، والأماكن التي تقدم فيها راقية و يتراوح دخل المكان بين مليون إلى ثلاثة مليون جنيه في اليوم. السيد الوالي يبذل مجهوداً مقدراً في إعداد وجبة فطور بسيطة لحوالي «150.000» مائة وخمسين ألف طالب يأتون إلى المدارس بدون فطور أو «حق فطور» لماذا لا نفرض رسوم في هذه الأماكن تغطي حاجة هؤلاء الطلاب، نسبة الفقر في السودان 2009، 46% وهي متوسط ل26% في الخرطوم كأقل نسبة في السودان 69% في بعض مناطق الشرق والغرب، أكبر عدد فقراء في السودان في جنوب دارفور وأقلها في الشمالية والخرطوم على المرتبة الثالثة من ناحية عدد الفقراء هذا ما قاله الاخ نائب جهاز الإحصاء المركزي في حديث في الإذاعة يوم 19/8/2011 على أقل تقدير يوجد 1000 ألف مكان للشيشة في الخرطوم قبل المنع يتراوح الدخل اليومي مليون إلى ثلاثة مليون جنيه، لو فرضنا رسوم تصديق سنوي لكل مكان 36 مليون جنيه «بالقديم» في السنة تدفع بأي طريقة شهرياً سنوياً أي أقل من مائة ألف في اليوم، العائد السنوي يمكن ان يكون 36 مليار جنيه في السنة بالقديم. افطار 150 الف تلميذ بواقع 1.5 جنيه للواتحد لمدة 6 أشهر في السنة، والشهر 20 يوم دراسي، يكون الإفطار في حدود 27 مليار، أليس في هذا تكافل لطيف في مجتمع عفيف إذا علم متعاطي الشيشة أنه يساهم في تكافل بديع في رفع معاناة أطفال في سن الدراسة الأساسية حتى يكبر جزء كبير منهم في نبوغ يؤهلهم للجلوس في هذه الأماكن بعد دراساتهم الجامعية ليساهموا في إزالة بعض أوجه الفقر من المجتمع لجيل بعدهم. علينا جميعاً أن نتمهل في قراراتنا وحركاتنا وسكناتنا حتى لا نكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.