أواخر أبريل الماضي كنتُ وبعض أفراد أسرتي في زيارة للأراضي المقدسة، وكان مقر سكناي مدينة «جدة» التي انطلق منها إلى الحرمين الشريفين في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، ثم أعود إليها من جديد. خلال وجودي في مدينة «جدة» رتّب لي صديق الصبا وزميل الدراسة، الأستاذ عبد العال السيد، الشاعر والصحفي المعروف، زيارة لمقر صحيفة «عكاظ» السعودية، التقيت خلالها بالدكتور هاشم عبده هاشم رئيس تحريرها، وعدد من قادة العمل بها. في صالة التحرير، عدد من الصحفيين السودانيين وفاجأني بعضهم وبعض الزملاء السعوديين بأن سألوني عن تفاصيل وفاة الشاعر السوداني الكبير الأستاذ محمد مفتاح الفيتوري، وقال لي بعضهم إن الخبر أكيد، وتم بثه في كثير من المواقع الالكترونية. أجبت على السائلين بأن الموت غير مستبعد لأيٍ منا، لكني لا علم لي بوفاة الفيتوري، وإن أمراً مثل هذا إن حدث فسأكون من أوائل الذين يعلمون به، لصلتي الوثيقة بأسرة الشاعر الكبير، وبزوجته وأبنائه.. وأضفت إلى ذلك أن أجهزة الإعلام والصحافة السودانية الرسمية والخاصة لن تقف معقودة اللسان مكسورة القلم إذا حدث هذا الأمر.. وكان بعض الزملاء في «عكاظ» قد أخذوا يعدون العدّة لإصدار ونشر خبر مرفق به (نعي أليم)، فطلبت منهم التريث حتى يتم الاستيثاق من المعلومات التي تجوّلت بحرية وسرعة ونشاط داخل الشبكة العنكبوتية. أجريت اتصالاً هاتفياً فورياً بالسيدة الفضلى الأستاذة «آسيا عبد الماجد»، (أم إيهاب)، وتحدثت إليها مستفسراً عن الأمر، ثم تحدثت إلى ابنه «تاج الدين» وعلمتُ أن الخبر «الطائر» قد بلغهم فقاموا بإجراء اتصالات فورية بوزارة الخارجية، التي لم تخيّب ظنهم، فاتصلت بسفارة السودان في المغرب لتقصي الحقائق، وطلبت إليّ أسرة الأستاذ الفيتوري أن أعاود الاتصال عصراً، لمعرفة نتيجة الاتصال، ولكن الأسرة الكريمة اتصلت عليّ قبل العصر ليخبرني أفرادها بأن شاعرنا الكبير حيّ رغم معاناته من المرض في شقته التي يعيش داخلها مع زوجته المغربية. نقلت الخبر للزملاء في «عكاظ» وبحثت عن مصدر الخبر وأصله إلا أنني فشلت في ذلك، وتيقنت من صحة المقولة الراسخة (آفة الأخبار رواتها).. فالتسرع في نشر الأخبار (مصيبة) ستلقي بظلالها على الكثيرين إن كان الخبر كاذباً، رغم أن تعريف الخبر علمياً هو الحدث الذي يمكن أن يكون صحيحاً أو كاذباً.. لكن إذا تعلق الأمر بموت شخص أو أشخاص فإن الحكمة تقتضي التثبت منه. وهذا هو الفرق بين الصحافة الحقيقية (الرسمية) وبين صحافة الانترنت، أو صحافة الهواة.. أو «الصحافة الشعبية»، وكلها تسميات تطلق على الأخبار التي يطلقها هواة غير مختصين أو محترفين، ويتناقلها غيرهم، دون تقدير للنتائج.. وهذا ما نطلق عليه في دارجتنا الفصيحة (الشمارات) التي جاء اسمها من «شمار» الذي يعني لسيدات المطبخ «نكهة مميزة» للطعام، ويعني لناقلي الحديث ومروجي الشائعات نكهة مميزة لما يقولون. ما حدث من «موت إسفيري» لشاعرنا الكبير الفيتوري -شفاه الله وأطال عمره- هو جريمة بكل المقاييس.. لكنه جريمة لن يصل أحد إلى مرتكبها.. لتقيّد ضد مجهول.