وتشرق على وطني الأضواء القدسية وتتسلل من شقوق الجدر والحيطان أشعة ليالي رمضان العطرية، والنسيم يدفع بسحائب العطر والمسك والصندل، وسحب من الأريج تهب على ديار نتوق ونذوب شوقاً ووجداً لمعانقة كل عطر آتٍ من «يثرب» وهذا هو احتفالنا برمضان ذاك الذي ينسج بردة من بهيج الألوان وبهي الطلاء، يشتمل عليها الوطن، ويا لروعة تلك الأيام الزاهية المترفة، والتي كنا نفرد فيها الأذرع والصدور لنستقبل في مرح وفي فرح وفي سعد أيام وأماسي وليالي رمضان، ويا له من زمن بديع قد رحل بلا وداع، حاملاً معه أغلى ذكرياتنا وأنبل تذكاراتنا.. ذكرياتنا عن رمضان إنه كان عيداً دونه كل الأعياد.. فرحا ًدونه كل الأفراح، نعم كان رمضان أحياناً يصافحنا صيفاً، والشمس تكاد تذيب الأسفلت، كان يحضرنا ونحن بلا خيل ولا مال، ولكن بقلوب محتشدة بالأمل، بأفئدة تفيض بالأماني.. كنا نغسل مواعين أجسادنا بجرعات ودفقات من الإيمان، ونضع خطاً فاصلاً بين حياة وحياة، كان موسم الهجرة الى الله، كان موعد رحيل الأنفس الى أعلى، كان زمان المثوبة والاعتذار، ولوم الأنفس، وتطهير الجراح بالدموع.. ألست محقاً عندما بكيت على تلك الأيام المترفة، ثم كيف هو حالنا الآن؟.. يا الهي ماذا دهى الكون، وكيف تبدلت الأمور، وكيف ذهب ذياك البريق، وها نحن نتغير، النقيض الى النقيض، وما أن تتساقط أوراق الأيام إيذانا باقتراب الشهر الفضيل والكريم، حتى تهب رياح الهلع، وتغمر الأرض والنفوس وحتى «الحكومة» أمواج الجزع.. وتحشد فضاء الوطن بأسئلة تثير الخوف والفزع، ليس خشية من نفس لوامة، أو تقصير ليس الخشية من ارتكاب المعاصي في شهر العتق والغفران، بل خوفاً من نقص في «السكر» أو شح في «تموين» أو تدافع بالمناكب، وصفوف لتقاتل على كيس للصايم.. يا خسارة هكذا صار الاستعداد لرمضان.. هكذا صار التسلح والتسليح لمجابهة رمضان.. صار رمضان بالنسبة للناس هو معركة تخزين المواد التموينية لبعض الناس.. والقتال للحصول على الفتات من مواد التموين.. لكل الناس، ذهبت والى الأبد تلك الأشواق الشاهقة لليالي رمضان التي تجلجل في فضائها الصلوات القدسية، ذهبت والى الأبد تلك الأجواء الروحانية المترفة التي كانت تفرط مظلة الإلفة والمحبة والحب.. من المسؤول؟، ولماذا صار رمضان عبئاً بعد أن كان عيداً بل كان فخر وروعة الأعياد. عفواً أحبتي هي خواطر اكتبها في أسى وأسف وحزن على أيام رمضان، تلك الرائعة والبديعة في زمان غادرنا.. سافر وتولى ولكن مهلاً ما زال في جزع الشجرة صفق ينمو، يحيا ويخضر ما زلنا نحاول اجترار الماضي، مازلنا نحلم أو نخدع النفس بأننا ما زلنا في ظلال الماضي، ولم لا انه موسم الهجرة الى الله، انه موسم العودة الى سلم الصعود وهو مخطوطات تحملك الى عكس عقارب الساعة، الى عصر زاهٍ، وأيام بطعم الشهد، بلون المجد وأذهب الى المكتبة لأدفن روحي في ذاك التراب المقدس الذي مشى على ذراته وحباته أشرف رجالات المجد، أرفع قامات البشر تحملني صفحات الكتب الى حدائق السلف الصالح وآثار التاريخ الحافل بمرضاة الله.. الحافل بنماذج تضوي الليل، أتقفى آثار مصابيح باهرة الضياء حملها من حملوا الأمانة أمانة التكليف ورعاً وزهداً وكلمة وجسارة .. وافتح الصفحة الأولى وغداً أطالع بعض اللوحات.