بالأمس وبينما كنت أقود سيارتي، متجهاً إلى سوق السجانة من وسط البلد حيث «آخر لحظة»، اكتشفتُ على هاتفي اتصالاً لم أجب عليه من صديقي وزميلي محمد محمد خير، فعدت إليه وإذا به يسألني عما إذا كنت في «الفراش» أم ننسق لنذهب سوياً عند المغرب. كان ذلك ظهراً ولم أكن قد اطلعت على حزمة الجرائد التي استلمتها على التو، والتي نشرت الخبر.. فسألت «أبو الزبير» عن أي «فراش» يتحدث، وأجابني بسؤال: ألم تعلم أن «الحاجة سكينة» قد رحلت؟ كان سؤالاً صاعقاً ومفاجأة حزينة، فأبو الزبير لم يتوقع- لأنه يعرف عمق الصلة والعلاقة- أن تكون سكينة «رحمها الله» قد رحلت وأنا لا أعلم، ومعه ألف حق في ذلك.. لكن لأن الأمر كله مفاجيء وتم بليل- كما علمت من ابنها عادل فيما بعد- فإن ذلك قد أربكهم، فهم كان همهم الأول أن يوسدوها قبراً بالقرب من حبيبها وأبي عيالها سيد أحمد الذي رحل منذ وقت قريب، وأوصت ابنها يوسف في فراش مرضها بالقاهرة قبل اسبوع- وبدون ما يؤشر إلى قرب الأجل- أن يدفنوها إن ماتت بقرب سيد أحمد. ü حكايتي مع «سيد أحمد وسكينة»، حكاية طويلة عريضة، يصلح القليل منها للنشر ومعظمها لا يصلح لذلك، لأنها ضاربة في «الخصوصية» فقد حولتني الأقدار وصروف الدهر إلى «جزء من هذه العائلة» الكريمة، فكنت من القليلين المأذون لهم «بالتدخل في الشؤون الداخلية» للأسرة، بعد سنوات طويلة من «بناء الثقة» ومن المودة والحرص والتراحم الذي بدأ بيني وبين «أبو السيد» في «الخارج» وانتقل إلى «الداخل» عندما عاد كلانا إلى أرض الوطن في وقت متزامن تقريباً. ü كنت قد تعرفت على الصحافي سيد أحمد خليفة مرة في أبو ظبي، وهو قادم «ترانزيت» من الصومال حيث يعمل مستشاراً إعلامياً للشؤون العربية للرئيس الراحل سياد بري ومراسلاً لصحيفة «السياسة» الكويتية لصاحبها ورئيس تحريرها أحمد الجار الله، بينما أنا بجريدة «الاتحاد» الاماراتية. توثقت الصلة بيننا على الفور وبدون كثير مقدمات- كعادة أبو السيد- رحمه الله بقلبه الكبير وانفتاحه «على الآخر» الذي لا يعرف التردد ولا التحفظ والريب.. وأصبح بيتي في أبو ظبي بيته كلما عاد إلى الإمارات في طريقه للكويت، لنجتمع في وقت لاحق من عقد السبعينيات في مقديشو مقر عمله، وأنزل بذات الفندق- فندق العروبة- حيث إقامته الدائمة. وليحتفي بي أيما إحتفاء، وليزود صحيفتي بالأخبار التي أمدها به من الميدان في «الاوجادين» والشمال عند هرقيسا وما حولها أيام الحرب بين الجارتين اثيوبيا والصومال.. بل كان يزيد عليها ما يستجد في العاصمة وحيث هو قريب من مركز صناعة القرار في القصر الرئاسي، فأنجح مهمتي الصحفية بأكثر مما أتوقع أو تتوقع الصحيفة، بعد أن تحولت وإياه إلى «فريق عمل» انقسم بين «ميدان الحرب» و «عاصمة البلاد». ü إبان الديمقراطية الثالثة، ومع خريف 1988 أي «الفيضانات والسيول» عدت للبلاد لإعادة فتح المكتب الاقليمي «للاتحاد» للسودان وشرق افريقيا، وجدت سيد أحمد قد سبقني وعمل حيناً من الدهر رئيساً لتحرير «صوت الأمة»، لكنه تركها وبدأ بتأسيس صحيفته الخاصة «الوطن».. وتشاء الصدف أن لا يفصل بين مكتبي وبين مقر الصحيفة الناشئة غير شارع «السيد عبد الرحمن»، فيسر هذا القرب تواصل التعاون بيننا، في كل ما يخص صحيفته، وكل ما يخص مكتبي، بطبيعة سيد أحمد المعطاءة التي يعرفها الجميع.. ولكن أهم من ذلك، وبما أنني عدت منفرداً وخلفت أسرتي ورائي في «أبو ظبي»، وبرغم الكم الهائل من الأقارب والمعارف في الخرطوم، فقد تحول بيت سيد أحمد إلى بيتي الثاني، وهناك تعرفت على السيدة العظيمة والأخت الكبرى لإخواتها وإخوانها «الحاجة سكينة»، فأحاطتني بكرم وإخوّة تقول لي أبو السيد «انت بتعرف شنو!». ü أصبحت أدخل بيت سيد أحمد بلا استئذان كفرد أصيل من أفراد الأسرة، فأطلب الطعام، وتهبُّ هي «ملكة الدار والمطبخ» بنفسها لتحضرّه لي وتخيرني بين الأصناف الموجودة أو ما أرغب فيه، إن لم يكن تم إعداده مسبقاً، وغالباً بعد حين يطل أبو السيد متهللاً بطلعته البهية ليغدق على مجلسنا في حضرة الحاجة سكينة والعيال «دعاش» الأنس الجميل، حتى أعود إلى مكتبي- حيث أقيم- حامداً شاكراً.. بعد أن يكاد الليل أن ينتصف. ü لم تكن حاجة سكينة سيدة تقليدية كسائر النساء، وإن كان مظهرها الخارجي كذلك، كانت امرأة عارفة لقدرها وقدراتها، وبرغم ذكاء سيد أحمد المشهور، فكثيراً ما كنت أقول له- رحمه الله- مداعباً «إنني لم أرَ أذكى منك إلا حاجة سكينة» فكان يضحك برضاء «لهذا الاكتشاف» الذي يزيد من تقديره واعجابه بمن كان يسميها تحبباً ب«الإختيار»، قريباً من الاسم الذي كان يطلقه الفلسطينيون على «أبو عمار» «الختيار» أي الكبير. وإن كان «اختيار» سيد أحمد هو مشتق من «التخير». وقد روى لي- عليه الرحمة- قصة زواجه من ابنة عمه وجارته سكينة عندما كان لا يزال شاباً غريراً، إذ فوجيء ذات يوم وهو عائد من تمرين الكرة بأحد ميادين «الديم» يتقافز بملابسه الرياضية بأبيه وعمه يجلسان في مقابل بعض ويتصافحان «بصفاحه» على سكينة التي أصبحت في ما بعد «الاختيار»، ربما يشير ذلك إلى الاختيار الإلهي الذي تحول إلى «مودة ورحمة» سكن إليها، وتحول إلى «قصة نجاح» في خاتمة المطاف. ü لم يرزق سيد أحمد وسكينة إلا ثلاثة أولاد ذكور، هم يوسف وأمير وعادل، لم تكن بينهم أُنثى، وبينما كان سيد أحمد في السعودية إبان فترة عمله بجريدة «المدينة» اختلف أخاه مساعد مع زوجته وافترقا، وكان لديهما بنتان وولد، فاقترحت سكينة ووافقها سيد أحمد أن يأخذا البنتين- مشاعر ومناهل- وتقوم سكينة على تربيتهما ورعايتهما، مثلما كان لسيد أحمد بحكم علاقته المتميزة مع «الثورة الارتيرية» علاقة مع بعض كوادرها العاملة والنشيطة، فاقترح على أسرة ارتيرية أن يهدوه بنتاً يربيها ويرعاها فأهداه صديق إرتيري ابنته الوحيدة «غادة» التي لم يتجاوز عمرها عاماً واحداً، فقامت حاجة سكينة على تربية الثلاث بنات، وتدرجت ثلاثتهما في التعليم حتى بلغن جامعة الخرطوم.. مشاعر ومناهل درستا علم النفس والاقتصاد و«غادة» تخرجت في كلية البيطرة. وتزوجت بنتا الأخ مساعد و«غادة» لا تزال مقيمة في البيت كانت تمارض أمها سكينة آناء الليل وأطراف النهار، يتقاسم أبناؤها عادل وأمير ويوسف نوبات المرافقة بالمستشفى بينما «غادة» ثابتة قرب سريرها لا تفارقها. ü رحم الله اختنا الكبرى «سكينة» بقدر ما قدمت من خير وما انتوت فعله، فقد جبلت على الخير، فعلت منه بقدر وسع عمرها، وكانت تدخر منه الكثير لأيام قادمات، لكن أجل الله لا يؤخر، فاللهم أجزها عن كل خير فعلته وكل خير نوته.. الله يا أكرم الأكرمين بين يديك سكينة وسيد أحمد فاغمرهما بوابل كرمك ورحمتك التي كتبتها على نفسك وجعلتها مفتاحاً لآيات كتابك.. آمين.