رغم أن الذي بيني والإنقاذ لمختلف جداً.. ورغم إنني والإنقاذ خطان متوازيان لا يلتقيان إلا على كراسة بليد.. رغم كل هذا وذاك وذلك إلا إني ما أن تلقيت دعوة من الدكتور الخضر.. والي ولاية الخرطوم.. إلا ووجدت نفسي.. أهيئ زينتي وأعد مفتخر الثياب تأهباً وإصراراً متناهياً لأن أكون من أوائل الملبين.. وفي مقدمة الحاضرين.. ليس لهرولة نحو حياض الإنقاذ.. وليس إبحاراً طائشاً إلى ضفافها الجديبة.. بل المحطوطبة العشب ولا لحدائقها والتي هي مثل تلك التي وصفها الدوش.. وأزهار ذابلة على الشاطيء متكية.. أفعل ذلك لأن الرجل جدير بالاحترام.. يحترم الصحافة ويحترم في شخصها أشخاصاً وهم الإخوة «الصحفيين».. يفرد لهم من القاعات أفخمها وأوسمها.. يفتح لهم قلبه قبل أن يشرع للقاعات أبوابها.. هو ليس مثل كثير من «إخوانه» اولئك الذين أسكرتهم السلطة ولعبت برؤوسهم خمر الصولجان.. فباتوا يمشون في الأرض كالطواويس غروراً وتكبراً.. بل ظن بعضهم أنهم إنما هم ملائكة هبطوا من السماء.. لهذا كله ومن أجل هذا كله.. كنت أول من وطئت قدماه باحات وساحات دار النفط تلك الفخيمة والوسيمة.. وحقاً وصدقاً لم أكن أعرف مسبقاً لماذا هي الدعوة.. وفي أي أمر يتم النقاش والمفاكرة.. وأدلف إلى القاعة.. تلك الرحيبة والأنيقة.. لم يدهشني أن مقاعدها تئن من ثقل الصحفيين.. وما طافت بذهني لمحة من عجب وأنا أمسح المقاعد بعيوني ولا أجد «كرسياً» واحداً خالياً.. هنا تأكدت قناعتي بأن الرجل يتمتع بالاحترام من كل أطياف وألوان الصف الصحفي. وقبل انطلاقة اللقاء.. وحتى قبل دخول الوالي الدكتور الخضر.. بدأت في تكسير الوقت وقتل رتابة الانتظار بالبحلقة في وجوه الإخوة الأحبة الصحفيين.. ومسحت بعيوني كل الصفوف.. وعقلي ينشط في توصيف وتصنيف الحضور.. ولم أنسَ بالطبع أن أستدعي حالة من نفسي «الشريرة» والتي أخفيها بين طيات روحي المتسامحة المتسربلة بالصفح والغفران. وإذا قال «المعرى» ذاك الضرير المتشائم.. مرة.. عن لحد يصير مرات لحداً يشكو من تزاحم الأضداد.. فقد كانت القاعة بذاك التوصيف أشبه.. «كرسي» بل كراسي تحتضن صحفيين عقائديين انقاذيين.. ما بدلوا تبديلاً ظلوا على ولائهم «للإخوان» وهم «إخوان» أصلاء.. دافعوا عن الإنقاذ منذ أن كانت حلماً.. ورفعوا راياتها منذ أن كانت أملاً.. ثم باركوها منذ أن كانت تآمراً.. وانخرطوا في صفوفها منذ أن دانت لها البلاد من نخلات حلفا وللغابات وراء تركاكا.. هؤلاء.. أيضاً جديرون بالاحترام.. رغم أني أناهض فكرهم حتى الموت.. أواجه معتقداتهم حتى الفناء.. ولكن لابد أن أحني قامتي لهم لأنهم ما لانوا ولا خانوا ولا انكسروا. وتذهب عيوني إلى وجوه أخرى.. وهؤلاء هم الذين التحقوا بالإنقاذ بعد أن قفزوا من مراكبهم التي علموا إنها لن ترسو على ضفاف أو شواطيء.. وهؤلاء جذبتهم أضواء وأنوار بؤر الضوء وهالات الكشافات.. وتمتد رحلة عيوني.. وهي تنظر في «بلادة» تبددها دهشة إلى وجوه مكتوب عليها بحروف خجولة وكأنها مدونة بالحبر السري.. تعلن في جلاء هنا تطل عليكم وجوه المؤلفة قلوبهم.. وتواصل عيوني الترحال.. ثم تسقط فجأة في مضارب وجوه.. باعت بل بصقت على كل صفحة من تاريخها.. حاولت أن تشعل النار في أوراق ذاك التاريخ حتى يصبح رماداً تذروه الرياح.. ناسية أن التاريخ.. ليس مكتوباً بالحبر في الصفحات.. بل منحوت بأطراف أسنة وخناجر على هامات الجبال.. وبكرة نواصل الحلقة