استبعدت كثيراً الإقدام على الكتابة في هذا الموضوع لخصوصيته وتخصصه، إلا أن صديقاً لي وعندما كنا نتحاور ذات مرة- كما تعودنا دائماً عندما نلتقي- هاجمني بشدة ووصفني بالمُقِل، رغم وفرة الموضوعات التي يمكنني الكتابة عنها، خاصة تلك المتعلقة بالاقتصاد ومن داخل بيت الاقتصاد اختار، حجرة الاستثمار التي تطل مباشرة على المواطن الباحث عمن يكتبون عن همومه ويسطرون بمدادهم آماله وتطلعاته. تدرج بنا النقاش في تلك المرة حتى خلصنا إلى قناعة مشتركة مفاداها أن ليس بالضرورة أن تحقق كل الموضوعات ا لتي يتناولها الكُتَّاب في الصحف اليومية أغراض الإثارة والتسلية، فللصحف رسالة تعليمية وتثقيفية تساهم بقدر ما في رفع درجة وعي المواطن وزيادة معارفه الإنسانية، وقد أضحى هذا الدور مهملاًً وغائباً فامتلأت الصحف بالغث من الموضوعات التي تتناولها أقلام أشباه المثقفين والكتاب ،الذين تعج بهم الساحة الصحفية اليوم، وعندما تناول السيد رئيس التحرير في احد مقالاته بعموده الراتب «بعد ومسافة» صارخاً في أذن الحكومة «الاستثمار ياحكومة» عاود الصديق نفسه الاتصال بي مستخدماً هذه المرة تأثيرات المنطق والعاطفة معاً.. ولما لم أجد فكاكاً ولا بداً سوى الانصياع لطلبه وعدته بأنني سانجز ما وعدت بعد عطلة عيد الأضحية المبارك إن مد الله في الآجال.قبل الحديث عن قوانين الاستثمار التي صدرت في الفترة من الاستقلال وحتى 2011م تاريخ آخر مسودة لقانون استثماري بالبلاد، وتلك المؤسسات التي أسند إليها تنفيذ هذه القوانين، فلابد في البدء من الوقوف على المعنى الحقيقي لمصطلح استثمار الذي كثيراً ما يستخدمه الناس عندنا وهم يقصدون خلافه من المفردات. فمثلاً نسمع أحدهم يقول إنه يريد أن يستثمر أمواله في شراء سيارة «أمجاد» لتتولى تزويد المنزل بما يحتاجه من مصروفات يومية.. الحقيقة إن هذا الشخص يريد أن يمارس نشاطاً اقتصادياً خدمياً عادياً ولا يمارس نشاطاً استثمارياً، لأنه سيقوم باستهلاك عائد عملية تقديم خدمات سيارته للآخرين.. أما الاستثمار فهو ضد الاستهلاك وبنود الإدخار.. وهو يعني ببساطة شديدة الاستغلال الأمثل لمدخرات المجتمع في تنمية الاقتصاد عن طريق زيادة الناتج المحلي، فمتى ما كانت حصيلة العملية الانتاجية موجهة للاستهلاك فلا يعد ذلك استثماراً، والعلاقة بين الاستثمار والاستهلاك علاقة عكسية، تقل معدلات الأول عندما تزيد وتائر الثاني.. وقد ميز الاقتصاديون عبر التاريخ الاقتصادي الحديث بين نموذجين للاستثمار والتنمية، فهناك النموذج الرأسمالي الذي تقوم فلسفته على تحقيق أعلى معدل من الأرباح، بينما النموذج الثاني الاشتراكي تقوم أيدلوجيته على الاهتمام بالإنسان وتوفير الخدمات الضرورية من صحة وتعليم.. كذلك نجد نموذج النمور الآسيوية السبعة والذي يشابه في بعض سماته النموذج الرأسمالي، إلا أنني أتنبأ بأن يضاف إلى هذا التصنيف نموذج ثالث إسلامي المولد، إن أقتفت دول الربيع العربي النموذج التركي في الاستثمار والتنمية.. لقد صدر أول قانون للاستثمار في البلاد في العام 1956م وحينها لم ينشط القانون في جذب مستثمرين إلى ساحته سوى قلة من أصحاب رؤوس الأموال، مما دفع المسؤولين إلى استصدار قانون تشجيع الاستثمار 1967م فاختصت وزارتا الزراعة والصناعة بتنفيذه على المشروعات الزراعية، والصناعية فيما احتفظت إدارة الاقتصاد بوزارة المالية بتطبيق القانون على المشروعات الخدمية كالنقل والتخزين بشقيه الجاف والمبرد، والمستشفيات الخاصة، والفنادق.. الخ ونتيجة للتوسع الذي شهده النشاط الاستثماري في منتصف السبعينيات بسبب تبني الحكومة لبرنامج التركيز المالي والاقتصادي الذي صممه ووقف على تنفيذه وزير المالية وقتها السيد بدر الدين سليمان، استوجب هذا التوسع التفكير في إنشاء جهاز استثماري موحد، فأعلن عن مولد الأمانة العامة للاستثمار عام 1981م والتي أضحت مسؤولة عن منح الميزات والتسهيلات الاستثمارية، بموجب قانون تشجيع الاستثمار لسنة 1967م، بينما أنيطت المسؤولية بوزارتي الصناعة والزراعة في تقديم الرأي الفني للأمانة من خلال تقييم دراسات الجدوى للمشروعات في مجال كل وزارة.. استمر العمل بقانون تشجيع الاستثمار 1967 حتى تم تعديله في العام 1990م.. أما الأمانة العامة للاستثمار فقد ذهبت ضحية صراع الصالح غير مأسوفٍ عليها عن عمر لم يتجاوز العشر سنوات.. وفي عهد الانقاذ تم أول مرة إنشاء وزارة للاستثمار، آلت إليها سلطات تطبيق القانون المعدل على المشروعات القومية والاستراتيجية، فيما ظلت ولاية الخرطوم كسائر ولايات البلاد مسؤولة عن تنفيذ القانون عن جانب المشروعات الولائية، فانشئت بالخرطوم مفوضية تشجيع الاستثمار، بينما تم تقليص وزارة الاستثمار إلى المجلس الأعلى للاستثمار، والذي عين على رأسه بدرجة وزير الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل مؤخراً، وكخطوة ترمي إلى جذب الاستثمارات العربية والأجنبية للبلاد هذا السرد المتسلسل ورغم الخوف في كلياته الا انه كان ضرورياً لتأكيد الحقائق التي سترد لاحقاً والتي بقيت بعيدة عن إدراك متخذي القرار الاستثماري في البلاد. أولاً: لم تتمكن قوانين الاستثمار وفي كل مراحلها أن تعمل فعلياً على تشجيع الاستثمار وجذب المستثمرين الأجانب والعرب، والذين فضلوا- خاصة العرب- الاستثمار في اثيوبيا وأرتيريا، وتشاد، كبديل للاستثمار في السودان، فيما توقف أو أوشك على التوقف أولئك الذين شرعوا في إقامة مشروعات استثمارية من الوطنيين والأجانب. ثانياً: عدم ثبات الهياكل التنفيذية المسؤولة عن تطبيق قوانين الاستثمار، فتارة تمنح الصلاحيات لإدارة وتارة لأمانة. وثالثة لوزارة.. مما انعكس سلباً على أداء العاملين بهذه الأجهزة، كذلك فقد تضرر الكثير من المستثمرين بهذه التعديلات الهيكلية، إذ تلغى الأمانة ما سبق أن صادفت عليه الإدارة، وتلغى الوزارة كل ما صادق عليه غيرها. ثالثاً: وهي النقطة الجوهرية في الخلل الحادث، والتي تتمثل في عدم نفاذ مداد قوانين الاستثمار، فإذا تعارضت نصوص قوانين الاستثمار مع قوانين أخرى كالجمارك مثلاً يتم تجميد تنفيذ قانون الاستثمار بالانتصار لقوانين الجهات الأخرى، وأسوق هنا مثالاً حياً يصبح شاهداً، وهو تجميد ميزة منح الإعفاء أو التخفيف الجمركي على العربات الصالون للمشروعات القائمة، والتي تمد يومياً الأسواق بانتاجها، كانعكاس لمعالجات وزير المالية للأزمة الاقتصادية الأخيرة. رابعاً: سحلفائية إجراءات منح الميزات والتسهيلات، والتي قد تقود المستثمر للانتظار عقداً من الزمان، للبدء في استثماره، كما حدث في تسليم أراضي السبلوقة بأم درمان إن الحقيقة المؤكدة تقود إلى أن الفشل الذي لازم عملية الاستثمار في البلاد منذ الاستقلال، ترجع في الأساس لعوامل لا ترتبط بالنصوص الواردة في القوانين، فهذا التصرف يكون منذ البدء في المعلومة التي يدركها المستثمر، الذي أقدم على هذا العمل والذي لا يتوقع فيها تجميداً أو انتقاصاً، بل يعود إلى عدم قدرتنا في تفسير هذه النصوص تفسيراً ينسجم والغاية السامية، التي ننشدها من أجل تحقيق استثمار فاعل وحقيقي ينهض بهذه البلاد التي أقعدها الجهل والمرض سنين عدداً.