لا ينكر أحد ان كافة الدول وخاصة الدول النامية ومن بينها السودان تعمل جاهدة لانفاذ سياسات استثمارية جاذبة للاستثمارات والمستثمرين الاجانب والمحليين وذلك في سبيل تحريك وتنشيط القطاعات الاقتصادية ودعم برامج التنمية بالبلاد. ان كل ذلك يتطلب وجود خارطة استثمارية محددة وواضحة من حيث: أ) المشاريع والمجالات المستهدفة. ب) المناطق المستهدفة استثمارياً. ج) القيد الزمني لانفاذ المشاريع المستهدفة. إلا انه ومن واقع الممارسة والمتابعة للتراخيص الاستثمارية الصادرة في السنوات الماضية في السودان يلاحظ ان المستثمر هو الذي يحدد المشروع الاستثماري والمنطقة التي يرغب باقامة مشروعه فيها ووقت تنفيذ المشروع. وقد ادى ذلك إلي حدوث انفلات استثماري بالبلاد الهدف الاساسي منه الحصول على المزايا والاعفاءات الضريبية للاستفادة القصوى منها حيث درجت معظم الجهات المالكة لأسماء الاعمال المرخص لها استثمارياً على تجميد اعمالها وتحويل انشطتها تحت مظلة الانشطة الاستثمارية والعمل على تمديد الاعفاءات الضريبية واحياناً إلى ايقاف انشطة اسماء الاعمال المرخص لها بعد نهاية فترة الاعفاء الضريبي والتحول لامتلاك اسماء اعمال جديدة والحصول على مزايا استثمارية اخرى. ان المشكلة لا تكمن في الاستثمار وقانونه بل تتركز في الممارسات التطبيقية له والاستفادة من بعض الثغرات القانونية مع انعدام المتابعة والرقابة التنفيذية. وذلك بالاضافة إلى غياب الدراسات للنتائج والآثار الاقتصادية الايجابية والسالبة وقد ادى كل ذلك إلى: 1/ زيادة الفاقد الايرادي للخزينة العامة رغم حاجتها الماسة إلى الدعم المالي من موارد ذاتية حقيقية. 2/ ترتيب آثار سالبة علي القدرة التنافسية وخلق تشوهات في ظل سياسات اقتصاديات السوق الحر. ويمكن تلخيص وجه نظري في التالي: اولاً: عوامل ومعايير جذب وتشجيع الاستثمار. الإعفاء الضريبي ليس العامل الوحيد لجذب الاستثمار وطبقاً للمعايير الدولية فان الاعفاء الضريبي يأتي في مرتبة متأخرة جداً من الأولويات لجذب الاستثمار حيث يسبق الاعفاءات في الأولويات طبقاً لنشرة الانكتاد عام 2000م. 1/ عدم جواز التأمين والمصادرة.2/ الاستقرار السياسي. 3/ الاستقرار الاقتصادي. 4/ تحويل الارباح ورأس المال للخارج. 5/ انخفاض معدلات التضخم. 6/ حرية التعامل بالنقد الاجنبي. 7/ توفر الموارد الطبيعية. 8/ توحيد وتبسيط الاجراءات الاستثمارية. 9/ ارتفاع معدل النمو الاقتصادي. ثانياً: توصيات اللجان الوطنية البعثات الفنية لصندوق النقد الدولي: (الفاقد الضريبي): نجد ان التوصيات الخاصة بالنظام الضريبي بالبلاد ظلت تركز على إلغاء الاعفاءات الضريبية المطلقة التي تمنح بموجد قانون تشجيع الاستثمار بما لها من آثار سالبة على الايرادات العامة للدولة وانعدام القدرة التنافسية بين المشروعات في القطاعات الاقتصادية المختلفة. ويلاحظ انه قد ورد في تقرير احدى هذه البعثات للعام 2002م ان الفاقد الضريبي يصل الى «154» مليار دينار أو ما يعادل «599» مليون دولار وبنسبة تصل إلى «59%» من الناتج المحلي الاجمالي. وبلغ الفاقد الضريبي «542» مليون جنيه للعام 2005م. ثالثاً: التشوهات في الأسواق: أن من أهم الآثار السالبة للاعفاءات الضريبية هو تفاوت الدخول بين شرائح المجتمع المختلفة حتى اصبحت الضرائب تتركز بشكل مكثف في قطاع الخدمات وينتج عن ذلك ارتفاع العبء الضريبي على دخول قطاع الخدمات وتشوهات في الاسواق لان البعض يقوم بدفع الضرائب وآخرون يتمتعون باعفاءات وهذا التباين يعتبر مسألة خطيرة جداً فلقد ازداد الاغنياء غنى والفقراء فقراً واصبحت الاعفاءات آلية النخبة واحدى ادواتها في السيطرة على السوق. رابعاً: المشاركة الضريبية: تقوم السياسة المالية للدولة الآن على مبدأ مشاركة كل قادر في تحمل نصيبه من الاعباء العامة ووفقاً لقواعد فرض التكليفات المالية والتي تحدد بالقدرة التكليفية للممول وعملاً بمبدأ العدالة الضريبية في ظل المنافسة الحرة بين المشروعات المختلفة. خامساً: عالمية الضريبة: الغالبية العظمى من الدول اصبحت تأخذ بعالمية الضريبة بحيث تخضع أي شركة للضريبة في موطنها الاصلي إذا لم تخضع في الدولة التي تستضيفها وبالتالي الاعفاء الضريبي لا يفيد الشركة الاجنبية. هناك اتصالات دولية لإلغاء الاعفاءات والحد منها كوسيلة لجذب الاستثمار خاصة وان هنالك بعضاً من دول العالم الثالث يفرط في منح هذه الاعفاءات الضريبية مما ادى إلى خلل في توزيع الاستثمارات في العالم. سادساً: بيانات احصائية عن التراخيص الاستثمارية الصادرة: 1/ الفترة من 2000 وحتى 2006م عدد التراخيص «7999». 2/ الفترة من يناير - سبتمبر 2007م عدد التراخيص «958». 3/ عدد التراخيص المنفذه فعلياً «1640». ولقد تم منح اعفاءات لأنشطة هامشية مثل صناعات العصائر والحلويات والمياه الصحية والمطاعم والمشروبات الغازية والورش وتعبئة الشاي وعربات التاكسي (اليموزين) ومقاولين وعلاج طبيعي «ميساج» فهناء سخاء مفرط في منح الاعفاءات الضريبية وذلك لعدم وضوح أو التزام بمفهوم واستراتيجية محددة للاستثمار وهناك المستثمر «السوبر» الذي يتمتع باعفاءات تمتد الي «10» سنوات وحتى «20» عاماً ويستمر مسلسل التهرب الضريب لذلك يجب إلغاء هذه الاعفاءات كلياً باعتبار ان الضرائب مساهمة من المواطن في ادارة الدولة. ان الاستثمارات الضخمة التي دخلت السودان من الخارج كانت في قطاع البترول حيث ان الاعتبار المهم هو وجود البترول في السودان وليس لوجود قانون للاستثمار يعفي من الضرائب. ان الاعفاءات الضريبية هي تضحية ويجب ان يقابلها عائد على المجتمع وإلا اعتبرت اهداراً لموارد دون جدوى. أفليس من حق السودان علينا ان نقف لننبه الي ضرورة وقف هذه الاعفاءات والحفاظ على موارد الدولة اللازمة لتوفير الخدمات والبنية الاساسية التي لاغني عنها لنمو الاستثمار؟. سابعاً: تجارب الدول بإجراء مقارنات مع سياسات الاستثمار في معظم الدول نجد ان اعفاءات ضرائب الدخل قد الغيت تماماً حيث تم التحول نحو توحيد وتخفيض الاسعار الضريبية لتفادي سلبيات الاعفاءات الضريبية المطلقة والشقيقة مصر اقرب مثال علي ذلك حيث الغيت الاعفاءات وخفضت الضريبة إلي «20%». ثامناً: مما سبق: اتجهت السياسة المالية للدولة في موازنة العام 2008م إلى خفض الفئات الضريبية بواقع «50%» من السعر الحالي «من 30% إلى 15%» على ان يتزامن التخفيض مع إلغاء الميزات الخاصة بالاعفاء الضريبي طبقاً لقانون تشجيع الاستثمار. فان لم يتم تنفيذ كل السياسات كما ينبغي وكحزمة متكاملة سيترتب على ذلك ان تفقد الدولة الايرادات الضريبية بنسبة «50%» بالاضافة إلى فاقد الاعفاء الضريبي وسيؤدي ذلك إلى كارثة مالية. الجدير بالذكر ان قانون ضريبة الدخل لسنة 1986م قد منح مزايا ضريبية للصناعات والمنشآت الاستثمارية تتمثل في منح نسبة «20%» خصماً اضافياً للاستهلاك الابتدائي للسنة الأولى لانفاذ المشروع من قيمة الآلات والمعدات الجديدة الخاصة بالعملية الانتاجية بالاضافة إلى الاستهلاك السنوي العادي بالمعدلات المعمول بها. ان فرض الضريبة بالقدر العادل الذي يتماشى مع المقدرة التكليفية يؤدي الى شعور الافراد بالامان الاجتماعي والاستقرار وعدم الخوف من المستقبل وهذا بالضرورة يدفعهم الى الالتفات إلى اعمالهم والانتاج والاستثمار وعمارة الحياة. ان منح حافز سعري منخفض جداً (الزراعة صفر الصناعة «10%» التجارة والخدمات «15%» طوال حياة المشروع افضل بكثير من منح اعفاء زمني لمدة محددة.