هل بالإمكان زراعة الذاكرة؟ والدكتور عبد الحليم محمد الرجل الذي أمسك بخيوط الشمس عنوانين بارزين لغلاف مجلة (شقيش ( «الراحلة» في عددها الثاني الصادر في يونيو من عام 2000 رئيس مجلس إدارتها وقتها علم من أعلام الفكر والاقتصاد في وطننا د. محمد عثمان الجعلي ورئيس تحريرها الصديق الدكتور محمد عبد الله الريح.. بزخم هائل انطلقت المجلة حيث سكنتها وقتها أجنحة ابداعية لم تكتفِ بتراثيات الراحل الطيب محمد الطيب، ود. ابراهيم القرشي وتساؤلات علمية طريفة للدكتور الريح فيما لو كان من الممكن عزل الذاكرة والإحتفاظ بها في أنابيب وفي شكل أقراص. (2)وقعت (شقيش) بيدي ونفضت عنها الغبار ومن بين غبار ذاكرتي المعطوبة تذكرت حماس الدكتور الريح وحلمه وقتها بإنشاء صرح ثقافي يسد فراغاً بائناً في مكتبتنا الثقافية والعلمية والفكرية.. (شقيش) التي أرى أن الترجمة الأنسب لها هي باثفايندر أو المستكشف، ذلك القمر الذي كانت أمريكا قد أطلقته في سعيها لكشف أسرار الكوكب الأحمر المريخ.. من أشجان وأحزان وآمال المغتربين، نحت ود الريح وفريقه اسم (شقيش) وهو سؤال ما زال يسد الأفق ليس فقط بشأن مآلات وجهة المغتربين وعذاباتهم، وإنما في وجهات مجلاتنا الابداعية في ظل تراجع أولويات سكان وطن عرف بأنه يقرأ كتراجع مريع ومذهل في مصفوفة ماسلو للحاجات الإنسانية، التي تبدأ من الحاجة الى الطعام لتبلغ تمام تجلياتها في الحاجة الى تحقيق الذات في قمة ذلك الهرم. نحن في وطن غالبية أهله في أسفل هرم العالم. (ابراهام ماسلو للحاجات الإنسانية) (3)ذلك العدد من (شقيش) زحم أفق أحزاني المترعة أصلاً بهموم الوطن وهموم العودة اليه عودة ليست كعودات عبد الواحد ومناوي وياسر عرمان، وإنما عودة تربال لا يعرفه أهل السلطة والجاه، ولا مصممو برامج الاستوزار، ولربما عرفه أهل المديح والغناء، وعذابات الحرف، وظلم أصحاب الصحف وملاكها وبرامج الإعلام. في ذلك العدد الفخم كتب د. الجعلي حلقات (ماهو عارف قدمو المفارق) في سيرة خالد الكد.. يقارن الدكتور متسائلاً فيما لو كان الخليل يكشف حجب الغيب ناعياً خالد الكد، أم كان في نعيه لنفسه نموذجاً خاصاً من أهل السودان؟ إن كلا الخليل وخالد في نظر الدكتور دخل مأزق السياسة والاجتماع ممارسة حية لا شعاراً أجوف، وفي تطواف الدكتور المعروف عنه في حدائق مبدعينا من علي المك، ورحيل النوار خلسة الى عبد العزيز داؤود، وعتيق، والعميري، وحميد، ومصطفى سيد أحمد، والطيب محمد الطيب، وعثمان حسين، يعبر بنا الى مدرسة أبي روف وروادها حسين وحسن الكد ونراه في ذلك العدد من شقيش راصداً لهجرة مبدعينا الراحلين عبر مدن العالم، ومنها ملفوفين بنعوش جميلة من قطن الوطن، وفي ثراه مثل الكد، على المك، وصلاح أحمد ابراهيم.. حملت تلك المجلة صورة ذهنية لطموحاتها الفنية والنوعية، واختطت لنفسها هدفاً سامياً ذكياً لم يخبُ وهجه بسبب إلا لأنه- وفي تقديري- كان لها ربابنة لا يعرفون غابة السوق ومطباته وتصادمها مع أعمال كهذه في وطننا الذي لا يستقر من البلوى على حال. توقفت منذ حوالي الاثني عشر عاماً (شقيش) دون أن تتمكن من الإجابة على سؤال يطرحه اسمها (شقيش؟) WHICH WAY? وأظل لاهثاً باحثاً عن إجابة على ظهر المستكشف باثفايندر PATHFINDER أن (شقيش) التي طواها غول التوقف تجيبني على أي حال عن سؤال طرحته هي (هل بالإمكان زراعة الذاكرة؟) فأجيب بنعم لأن تلك المجلة وكتابها من أحبابي باقين في الذاكرة، وأن عز المطلب وتبخر الحلم دون أن يطويه النسيان.. هذا وطن المفارقات مبدعين بلا مجلات، ومؤسسات ثقافية بلا حماية، أو دعم في وطن كان يقرأ فصعب عليه التهجي وقراءة لغة تقول إنه كان وطناً عظيماً.. من مجلاته «الشباب- والخرطوم- ومجلة الثقافة السودانية- وسوداناو- والإذاعة والتلفزيون- والصبيان» حلت محلها دكاكين العمم والشالات ومعارض السيراميك وفساتين السهرة وأصباغ الشعر. (4)من كتاب ذلك العدد مبدع رحل مؤخراً الأستاذ عوض فضيل عاشق البركل وابنها سهلاً وجبلاً وتاريخاً.. في ركام مكتبتي بعد عودتي أجد مقالة في (شقيش) مع شريط فيديو معنون منه لي يكتب عوض فضيل عن مبدع من كريمي اسمه (غنوم).. مبدع آخر ضاع شعره في رمال الصحراء من دون أن يسعف العمر راحلنا لتسجيله: يا مرسالي قوم من عندي أمشلو مخسَّم الله أصلك لا تخلّو وإن بقيت ما جبتو لاتجي كلو كلو ذهبت (شقيش)، وعوض فضيل، والكد، وعلي المك، وغيرهم.. ليتركوا نافورة من حبر إبداعهم تصيح: أيها الوطن «شقيش»؟