دارفور.. مراوحة بين طرابلسوالدوحة..! جاء في الأنباء أن ليبيا قطعت شوطاً بعيداً في التحضير لمؤتمر يستهدف توحيد حركات الاحتجاج الدارفورية وتكوين جبهة عريضة تستوعب جميع الفصائل والمجموعات، وتوقع المراقبون أن تبدأ المشاورات خلال شهر سبتمبر المقبل، وذلك لمقابلة إستراتيجية الحكومة الجديدة الخاصة بدارفور ووضع حلول ناجعة لأزمة الإقليم. أول ما يلفت النظر في الخطوة الليبية هي أنها جاءت مغايرة لرغبة الحكومة السودانية المعلنة والتي عبَّرت عنها، جهاراً نهاراً، من خلال زيارات متوالية لطرابلس لمسؤولين في أعلى هرم السلطة السياسية وتلخصت في مطالبة ليبيا بإبعاد رئيس حركة العدل والمساواة خليل إبراهيم أو الضغط عليه للالتحاق بمائدة المفاوضات في العاصمة القطرية الدوحة. لكن ليبيا وبدبلوماسية لا تخلو من محاذرة أو «غتاتة» لم تقل «لا» في وجه الخرطوم، بل عمدت إلى تطمينها في كل مرة إلى أنها لن تسمح لخليل باتخاذ طرابلس منبراً لحركته السياسية أو منطلقاً لتحركاته العسكرية، حتى جاء الوقت الذي أعلنت فيه عما «تنوي فعله» بخليل، الذي أصبح وفق الخطة الجديدة «حجر أساس» للمشروع الليبي الذي تتجمع من حوله أحجار الحركات الدارفورية المبعثرة لبناء «جبهة عريضة» تعبر عن جميع المحتجين، لنقرأ المتمردين، في دارفور ، من أجل حل عقدة التشرذم والشتات التي أعاقت الوصول إلى حل ناجز للأزمة حتى الآن. لكن الجديد حقاً في مشروع طرابلس التوحيدي هو ما أفصحت عنه بعض المصادر للزميلة «الصحافة» حول طبيعة «الجبهة العريضة» التي تزمع ليبيا هيكلتها من جماع الحركات الدارفورية، بحيث تصبح جبهة ذات «مرجعيات تنفيذية وتشريعية وقضائية ونظم ولوائح تحدد الاختصاصات بدقة»، مع تحديد المجالات التي لا يجوز لحركة أو فصيل أو مجموعة أن تنفرد بموقف أو قرار أو علاقة أو رأي خاص فيها. وبدا لي أن مثل هذه الفكرة لا تنبع إلا ممن هو في تجربة الزعيم الليبي معمر القذافي، مستلهماً في ذلك خبرته الطويلة مع منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت - ولازالت برغم حالة الضعف التي تعيشها- تقوم على هيكل تنظيمي جبهوي يستوعب في إطاره معظم، إن لم يكن كل الحركات والفصائل الفلسطينية، وتعمل وفق مرجعيات معلومة لاتخاذ القرار كالمجلس الوطني الفلسطيني«برلمان الحركة» والمجلس المركزي، كجسم تشريعي وسيط، بين المجلس الوطني واللجنة المركزية لمنظمة التحرير. وإذا ما تمكنت طرابلس من أن تجمع الحركات الدارفورية في مثل هذه الجبهة العريضة ذات الهياكل المؤسسية وبرضاء الحركات والفصائل المنضوية في إطارها، تكون بذلك قد وضعت اللبنة الأساسية لظهور حركة سياسية موحدة ومنضبطة في دارفور تستطيع أن تعبر عن قطاع واسع من المحتجين وأن تدخل إلى عملية السلام وفق رؤى وأهداف موحدة ومتفق عليها. لكن بقراءة على الضفة الأخرى، فإن نشوء هذا الكيان الجبهوي الجديد سيضعف من احتمالات استمرار منبر الدوحة الذي تعتبره الحكومة آخر المنابر، أو على الأقل سيكون هذا المنبر ذا «دور تكميلي» للبناء الذي يجري تشييده في طرابلس. فنحن جميعاً نتذكر الجهود المضنية التي بذلها الوسيط القطري مدعوماً بالوسطاء الأمميين والمبعوثين الدوليين من أجل توحيد هذه الحركات أو على الأقل توحيد موقفها التفاوضي والتي لم تثمر إلا القليل المتمثل في تكوين «حركة التحرير والعدالة» من جماعات منشقة عن الحركتين الرئيستين ، العدل والمساواة وحركة تحرير السودان، وهي حركة لا تجد اعترافاً واسعاً وينظر البعض إليها كجماعات لا وجود لها في ميادين القتال، خصوصاً وقد أسندت رئاستها لشخصية مدنية غير مقاتلة هو الدكتور التجاني سيسي. لكن حتى هذه الحركة التي استهلكت شهوراً طويلة في التفاوض مع الوفد الحكومي في الدوحة، أضحت الآن تتحدث لغةً مختلفة نقرأها في البيان الصادر عن قيادتها العامة يوم الأحد الماضي، تحذر فيه بعض أعضائها الذين يريدون مفاوضة الحكومة. بيان قال «نحن نرفض التفاوض من أجل التفاوض أو إعادة إنتاج أبوجا أو سلام وظائف زائف أو من أجل التطبيع مع المؤتمر الوطني» وتلك لغة لم نعهدها في خطاب «التحرير والعدالة» منذ أن تم تشكيلها في فنادق الدوحة. سؤال لابد من طرحه بمناسبة حديث بيان التحرير والعدالة الرافض لإعادة إنتاج أبوجا هو: ما مصير أبوجا ذاتها والتزاماتها، وما هو موقع شريكها الأساسي السيد مني أركو مناوي في هذا التحرك الليبي بشأن «الجبهة العريضة» خصوصاً والرجل وحركته يعيشون الآن في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مصالح تم استيعابُه في التشكيلة الجديدة للحكومة ولا هو معارض بالمعنى المفهوم للمعارضة، وكل ما نسمعه ونقرأه أنه لازال يفاوض الحزب الحاكم حول استحقاقات أبوجا وموقع حركته في السلطة التي أفرزتها الانتخابات، ولازال يعمل من جانبه لإعادة واستيعاب بعض الفصائل المنشقة عن حركته، ربما لتدعيم موقفه التفاوضي أو لترجيح كفة حركته في موازين «الجبهة العريضة» المنتظره، خصوصاً وللرجل علاقات وثيقة معروفة بطرابلس منذ مؤتمر حسكنتية الشهير الذي شهد المفاصلة بينه وبين رئيس الحركة المؤسس عبد الواحد محمد نورالذي يتخذ من باريس ملجأ حصيناً له ولمعاونيه. ويبقى هناك سؤال آخر وأخير، هو كيف ستنظر الخرطوم لنشوء «الجبهة العريضة» تحت رعاية ليبيا، هل ستعتبر الخطوة استجابة لمطالباتها القديمة بتوحيد الحركات ومواقفها التفاوضية من أجل السلام، أم أنها سترى في قيام جبهة بالصيغة والهياكل التي تقترحها طرابلس إضعافاً لموقفها التفاوضي أمام جبهة تقترب من أن تكون حزباً سياسياً دارفورياً موحداً ومقاتلاً يتحدث لغة واحدة ويتبنى برنامجاً معلوماً ومتواثقاً عليه بواسطة مؤسسات تشريعية وتنفيذية ملزمة.مازال الوقت مبكراً للإجابة على مثل هذا السؤال، ويبقى الموقف مفتوحاً على كل الاحتمالات في وقت لاتزال الأشياء آخذة في التشكل، وقت بدا فيه أن أزمة دارفور تراوح بين طرابلسوالدوحة.. فدعونا ننتظر لنرى.