لا أعرف لحكومة (الإنقاذ) عملاً فيه إنقاذ أكثر من الشروع في بناء خزان سيتيت في أعالي نهر عطبرة.. قبل ثلاث سنوات كتبنا تحت عنوان (الخزان يتصدع) والخزان المقصود كان خزان خشم القربة الذي أقيم في بداية الستينيات.. خلاصة ما قلناه هناك كانت صرخة مكبوسة في سطور سريعة اتذكر منها: حلفا الجديدة تتلهف من أجل(كوب ماء) تصدع الخزان وانهار المشروع وتداعيات الأزمة بلغت مياه الشرب ولم تبق لنا سوى الاستعانة بشركات المياه الصحية حتى تهطل الأمطار!! أذكر أنني شرحت تلك الخطوط في مقدمة تقول: لم تعد هناك في حلفا الجديدة مساحة للتحليل والتنظير المطلوب إنقاذ القرى المخنوقة بعمق زجاجة يعتمد تماماً على خزان متهالك الأبواب، اتحاد المزارعين يحذر: أن الزمن الباقي للعطش المميت ليس أكثر من أسابيع!! هذا السرد الطويل لمضامين صرخاتنا الطويلة قصدنا به تبيان خطورة هذا العمل الذي يجري الآن في عطبرة. خلاصة ما نريد إثباته هنا هي: إن سد سيتيت يختلف عن أي سد مائي أقيم في السودان، فالعمل هنا ليس مشروعاً تنموياً بحتاً رغم كل ما يمكن أن يقال عن الفوائد المتعددة مثل: مياه القضارف وزيادة الرقعة الزراعية وانتاج الكهرباء، هذا السد لإنقاذ مشروع حلفا الجديدة الزراعي من الانهيار التام ولإنقاذ عشرات القرى وآلاف الحيوانات من العطش وفوق ذلك لإنقاذ مصنع سكر حلفا. إذن عظمة هذا الانجاز تتلخص في رأينا في حالة كونه تصحيح لأخطاء تاريخية اُرتكبت بعدم بناء المرحلة الثانية من خزان خشم القربة في موعده علم 1974م.. نقلنا من قبل رأي الخبراء في إصدارة كجبار( قريتي تتهدم) في عدم جدوى إقامة السدود على مجرى النيل السوداني إذا كان بغرض التنمية فقط، فالخسائر على المدى الطويل(سبعين سنة) أكبر بكثير من الفوائد التي تظهر في الثلاثين سنة الأولى.. أعمار الخزانات تقاس بتسرب الطمي وليست هناك تكنلوجيا لإزالة الأطماء كما قال وزير الري عام 2008، وهو يشرح أسباب خروج محصول القمح في مشروع حلفا من دورة ذلك الموسم. هذا الأمر يبدو بوضوح أكثر في الروافد التي تحمل الطمي بكثافة في موسم الفيضان ومنها نهر عطبرة، وقلنا هناك أن الهندسة البشرية مهما بلغت من دقة لا تضاهي هندسة الطبيعة التي تبني الترسيب والنحت وجريان الماء ودرجة الحرارة ومستوى التبخر!! ولكن إذا برزت ضرورة جراحية تستدعي بناء سد وهي مطلوبة أحياناً يجب مراعاة الخسائر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي لا تقدر بثمن خاصة في المناطق التاريخية ذات الكثافة السكانية العالية- كما هو الحال في كل سدود شمال الخرطوم. من هنا نستطيع أن نجد لخزان ستيت موضع قدم في عملية تنموية معقولة ومفهومة النتائج، وذلك لعدم وجود كثافة سكانية كبيرة مع فوائد الكهرباء ومياه القضارف وتعمير الحدود الشرقية القاحلة وكل ما يمكن أن يوضع في خانة الأرباح. الإنقاذ: سياسات حكومة عبود الرعناء لم تضع خطة مستقبلية تحمل خيارات أمام المهجرين الحلفاويين والقبائل الأخرى التي ساكنتهم، الخطة كانت قائمة على خيار واحد وهو: إذا انتهى الخزان في خشم القربة ينهار معه كل شيء وهذا الذي كاد أن يحدث لولا الخزان الذي يُبنى الآن.. هذا السد حسب الخطط القديمة كان يجب إنشاؤه في منتصف السبعينيات كمرحلة ثانية مساندة لخزان خشم القربة لمعالجة مشكلة الاطماء، ولكن لم تلتزم به الحكومات السودانية لأنهم لم يكونوا في حاجة لاغراء المهجرين السودانيين بعد أن تم توريطهم في سهول البطانة، ومرت ما يقارب الأربعين عاماً حتى امتلأت بحيرة الخزان بالطمي وانحسرت طاقة الخزان إلى الثلث وتصدعت الأبواب. رغم أن هذا الإهمال الطويل حتماً سيضعف من آثار السد الجديد إلا أنه يمكن القول أن يأتي سد ضعيف خير من أن لا يأتي، والأخطر من كل هذا هو تسرب المياه من خلال أعطال أصابت الآلات المعالجة للأبواب الحديدية الضخمة، قبل خمس سنوات كانوا يقولون إن الكميات المسربة بلغت (227) مليون متر مكعب، هذا المعدل في التسرب هو تجاوز للإشارة البرتغالية الى الحمراء، لهذا منذ علم 2008م بدأت الصرخات تتوالى من المؤسسة الزراعية واتحاد المزارعين وطلبات استغاثة من المواطنين أنفسهم. بدأت وزارة الري تسوق حججاً واهية عندما بدأت التساؤلات، عندما يسأل الوزير كان يقول السبب هو ضعف الخطط الزراعية مثل: التوسعة في زراعة المحاصيل الأخرى، وعندما بدأ الزراعيون يهاجمون بالكشف عن الحقائق اشتد الأمر على الوزير فقال الحقيقة وهي: إن هناك تصدعاً في خزان خشم القربة ولا حل سوى إقامة سيتيت!! أما المدير الزراعي لمؤسسة حلفا فقد رفع من وتيرة الصراخ في وجه الجميع وأعلن صراحة في ديسمبر 2008/م: ( أن لم تعالج عملية التصدع في الخزان سينهار المشروع في الصيف القادم!!) ويبدو أنه كان يبالغ لتغطية الفشل الإداري والتقني للمؤسسة الزراعية. وجاء بعده في عام 2009م اتحاد المزارعين وعلى لسان السيد حسن جمال رفع الإنذار الى الصراخ بالقول:(إن لم تتوفر المياه خلال اسبوع فإن البشر أنفسهم مهددون بالعطش) ثم رسم سيناريو كامل للمأساة وحكى: بعد أن جهزوا مساحة 200 ألف فدان شرعوا في تنفيذ زراعة الفول، ولكن الجهات ذات الصلة أخطرتهم بخطورة شح المياه في بحيرة الخزان!! فالمياه المتاحة في الخزان 36 مليونا من الأمتار المكعبة (ولو صرفت نسبة 5\2 مليون فإن البحيرة سوف تنضب خلال 14 يوماً) وانتشر هذا الخبر لدى مجالس البسطاء، وانتقل من مجرد (تحذير وقائي) الى خوف وذعر وشائعات مثل: إن فلاناً خاض البحيرة راجلاً بين الضفتين وأن الأسماك تموت في وحل البحيرة!! استمعت شخصياً الى أحد المزارعين يحذر في التلفون بحسرة شديدة! ولم يكن أمامنا سوى التطمين (الكاذب): الحل ليس في الذعر والهروب يجب أن لا تنسوا من ستتركونهم وراءكم!! قلنا لهم في حينها ولم نكن ندري من نخاطب وإلى من نتجه: اتركوا الكلام عن أحلام (سد سيتيت) ولا تبكوا على الزراعة فقط على الحكومة أن تعمل على دعم (كوز الموية) حتى يفعل الله أمراً كان مفعولاً. العحيب أن هذا الماء الذي يبكون عليه كان ملوثاً! كانوا يشربون من بقايا مياه آسنة في جداول موحشة تعربد على قاعها حشرات مختلفة الأشكال، من يشرب بكفيه كان عليه أن يمرر يرقات أو أجنة الضفدعة (ود الموية) من بين فروج أصابعه! هكذا كان الأمر في بعض القرى وتجمعات الرعاة أيام التحاريق. في القرى الأحسن حالاً كانوا يشربون من ترع (أبو عشرين) التي حملت أحياناً بقايا حيوانات نافقة وأسماك متعفنة من جراء الجفاف في الخزان أو مواد كيماوية من بقايا الرش. وعندما اشتد التسرب في أبواب الخزان وقل الماء لم يعد هذا الحجم من الترع قادراً على الإمداد طوال أيام العام. بتعمق أزمة العطش في المشروع انتقلت (الوابورات) المنهكة إلى أكبر الترعات على الإطلاق بحثاً عن مياه نظيفة ولم يكن الانتقال سهلاً لمشاكل قانونية.. في هذا الوعاء الأخير اجتمعت كل الأرواح: مياه الأملاك، مياه الحواشات، مياه مصنع السكر ولك أن تتخيل الشد والجذب. كنت أقول لهم والحال هذه: لمن أراد أن يشرب مياهاً صحية أقل ضرراً عليه أن يترك الماء في أوعية لساعات طويلة ثم يقوم بتسخينه في غلايات ثم يشربها بعد التبريد!!هكذا كانت مياه الشرب في هذه القرى من بقايا (وحل الخزان).. حتى هذا كانوا قد بدأوا يفتقدونه..ولكن.... رحمة الله كانت أقرب وجاء الخريف مناسباً لتمر تلك المآسي بسلام مؤقتاً وكان أمراً مطمئناً أن يعلن رئيس الجمهورية أدرجوا سد سيتيت في الميزانية.. ورغم أننا ما تعودنا أن نصدق وعود الحكومة لأنها تأخرت كثيراً إلا أننا كنا ننتظر (أي قشة) تطمئننا والحمد لله أن هذه الوعود بدأت في طور التنفيذ. وبقي لنا أن نتساءل دون أن نمس حقوق الذين يتصدون لهذا الإنجاز: كم هو حجم القروض؟ وما هي شروطها؟ وكيف صرفت؟ وكيف هو حجم الفجوة (المعتادة) بين التكلفة الورقية والحقيقية؟ نسألهم وقد سئل (ابن اللتيبية) وهو صحابي جليل !!ما بالنا ونحن في دولة تم تصنيفها دولياً سابع أفسد دولة في العالم !!