لم تكد تكمل دولة الجنوب الوليدة عامها الثاني حتى انطلق الرصاص في جوبا من جميع الاتجاهات، إيام ليست بالكثيرة مضت منذ اندلاع شرارة الحرب الأولى بالجنوب، فرفقاء الأمس «سلفاكير ومشار»، أصبحوا أعداء اليوم، ومن جوبا انتقلت المعارك وامتدت إلى عدة مدن و ولايات وبات فيها الحسم العسكري هوسيد الموقف فجميع الأطراف تسعى لاثبات القوة، و العالم يتقدم بمبادرات لإيقاف الصراع الدامي بين طرفس النزاع بجوبا والذين رغم إبداء رغبتهم بالتفاوض و الحوار إلا أن قرائن الأحداث تشير إلى عكس ذلك على الأرض.. فكل الأطراف تسعى وإحكام السيطرة ليكون صاحب الكلمة القوية في طاولة التفاوض. وبتسارع الأحداث وتطورها يبقى السودان الدولة الأم في حالة ترقب يشوبه الحذر لمآلات الصراعات وما يترتب عليها من تداعيات سياسية واقتصادية واجتماعية على طول الحدود الممتدة. عدد من الرؤى أجمع عليها خبراء متخصصون في الشأن «الجنوبي» في محاولة منهم لقراءة الموقف ومستقبل المآلات على السودان على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي من خلال ندوة «تطورات الأحداث في دولة جنوب السودان واأثرها على السودان»، والتي نظمها المركز العالمي للدراسات الأفريقية. رؤية أمنية: اللواء م محجوب حسن محجوب الخبير العسكري والخبير بأدغال الجنوب والذي قاد العديد من المعارك هناك كشف عن طبيعة تكوين الجيش الشعبي ووصفها بالهشة، مضيفاً أن تكوينه قبلي، ويعتمد على ولاء المليشيات الكامل لقائدها وإيمانها الكامل به، ولكنه استدرك بأنها قد يصعب السيطرة عليها في حالة القتال فتتم فيها الفوضى. وأشار إلى أن قوات ريك مشار الذي ينتمي إلى قبيلة النوير لديها الخبرة القتالية الشرسة الطويلة وتعرف كيف تدير حرب العصابات جيداً وأنها الأكثر غبناً مثل القبائل الأخرى على قبيلة الدينكا التي استحوذت على كل شيء بعد الانفصال، مشيراً إلى أن الجيش الشعبي يمتلك العتاد العسكري والقدرة على القتال الممرحل، وكل من الطرفين يعرف مناطقه جيداً وكيف ومتى يتحرك فيها. وفي ذات السياق نوه اللواء «م» عبد الحليم عركي محمد بأن على السودان أن يستعد لحرب طويلة سوف تستنزف موارده العسكرية وتشتت انتباه الجيش السوداني وتشغله عن مهامه التي يقوم بها الآن في «عملية الصيف الساخن» بولاية جنوب كردفان، مشيراً لانفتاح الحدود على مصراعيها ما بين دولة جنوب السودان والسودان مما سيشكل كلفة أمنية جديدة على الجيش السوداني لمراقبة الحدود. متوقعاً بأن يتم استهداف مواقع إستراتجية وتعرضها لضربات تخريبية مثل حقول البترول ومصانع السكر القربية من الحدود في حالة نشاط الجبهة الثورية التي توقع تحركها والاستفادة من الأحداث لمصلحتها في الهجوم الكثيف على السودان.. وأن يتجدد الصراع على منطقة أبيي في إطار تداعيات الحرب القائمة الآن، وقال إن الخطر الأكبر سيكون بالتدخل الأجنبي في حالة عدم توفق الحرب وكذلك تدفقات النازحين واللاجئين إلى السودان والذي سيكون في موقف حرج بسبب توقيعه لاتفاقيات تعاون مع دولة جنوب السودان.. وختم الخبير العسكري عركي حديثه بأن توقع أن ينقسم الجنوب إلى ثلاث دول واحتمال أن تنضم ولايات أعالى النيل الكبرى إلى السودان في اتحاد فيدرالي، داعياً حكومة السودان إلى التعامل بحيادية مع الطرفين والوقوف على مسافة واحدة من طرفي القتال واستخدام الدبلوماسية بدون تصريحات إعلامية سالبة. رؤية اقتصادية: فقدان رسوم عبور النفط.. تذبذب سعر الصرف.. قفل المعابر التي لم تنفتح على مصراعيها بعد.. توقف التجارة البينية بين الدولتين وتدفق النازحين.. هواجس جديدة تؤرق الاقتصاد السوداني وأعباء محرجة تثقل كاهله.. الخبير الاقتصادي د.محمد الناير تناول تلك الهواجس والنقاط المفصلية، واقترح بعض الحلول والإسعافات السريعة لتدارك ما يمكن تدراكه، بدايةً نوه إلى أهمية التنسيق مع أطراف النزاع بالجنوب لحماية الآباروالمنشآت النفطية، حتى لا يتأثر اقتصاد الدولتين، وقلل في الوقت ذاته من تأثير فقدان رسوم عبور النفط ومن تأثير إيقاف التجارة مع الجنوب، لجهة أن التجارة لم تبدأ أصلاً، حيث كان متوقعاً أن يعود النشاط التجاري ب3 مليارات دولار للسودان في العام 2014، وعزا الخبير الاقتصادي ارتفاع سعر الدولار في الأيام الماضية لسبب «الارتباط النفسي» بين «الدولار والأحداث» في المقام الأول، حيث عمد تجار السوق الموازي لرفع الأسعار مباشرة بعد أي أحداث رغم انسياب 95%من الإنتاج النفطي للجنوب عبر الأراضي السودانية، معتبراً أن تذبذب سعر الصرف يمثل أكبر تحدي للاقتصاد السوداني في الوقت الحالي، واصفاً إياه ب«الخلل المزمن».. ولفت النظر إلى أن حكومة السودان ستواجه حرجاً إذا ماتدفق النازحون إلى الأراضي السودانية نسبةً لتوقيعها على اتفاقيات الحريات الأربعة.. وطالب الخبير الاقتصادي بإعادة وتعديل الموازنة الحالية بغرض تخفيضها حتى تصبح مناسبة للتعامل مع تطور الأوضاع بدولة الجنوب، ووصف الناير الموازنة بال«كبيرة» مشدداً على ضرورة مراجعتها بدقة حتى تصمد لنهاية العام 2014، مضيفاً أن الحجم الحقيقي للموازنة مابين 37-40 مليار جنيه. وأكد د.محمد حاجة السودان الماسة لقرض عاجل بقيمة «4» مليارات دولار على الأقل يدخل مباشرة في ميزان المدفوعات لتخفيف آثار وقف نفط الجنوب.. مشيراً إلى أن عائدات السودانيين بالخارج يمكنها أن تساعد في استقرار سعر الدولار بشرط إعادة الثقة وتقديم الضمانات الكافية لهم، وقال إنه الحل على المستوى البعيد يتمثل في التوسع على المستوى الرأسي و زيادة الإنتاج والإنتاجية والتحول نحو الاقتصاد المعرفي. بروفيسر عثمان البدري شدد على إيقاف تصدير الخام فوراً والبدء في تصدير المواد المصنعة منه لزيادة الفائدة، وتعجب من عجز المسؤوليين عن إدارة العجز الحالي، مشيراً إلى أنهم عجزوا عن إدارة الفائض في السابق، وطالب في ذات الوقت بتقليل الإنفاق الحكومي الغير مبرر، وأكد على حاجة السودان لقرض عاجل وسريع بقيمة 4 مليار على الأقل يدخل مباشرة في ميزان المدفوعات لتخفيف العبء على المواطن، وأضاف البدري قائلاً: يجب على الحكومة أن تنشط دبلوماسيتها مع الدول الصديقة لاستجلاب المنح والقروض. الحياد السالب: يرى د.عبداللطيف البوني الكاتب و المحلل السياسي أن تداعيات الأزمة الحالية أكبر أثراً من تدعيات الانفصال وأشار إلى أن الآثار ستكون كبيرة على السودان، ودعا الحكومة للخروج من مظلة الإيقاد والتخلي عن الحياد السالب والبدء في التحرك السريع لاحتواء أزمة الجنوب، لأن مصلحة الشمال تقتضي ذلك.. وقال البوني تحركات الغرب ستوقف الحرب سريعاً لاعتبارات أخلاقية واقتصادية يضعونها للدولة الوليدة. ملف الجنوب بجهاز الأمن والمخابرات: إبراهيم حمزة الضابط بجهاز الأمن والمخابرات الوطني والمسؤول عن ملف الجنوب أوضح أن ما يجري في الجنوب المقصود به السودان، وأبان أنه امتداد لمخطط بدأه جون قرنق، وقال إبراهيم إن سلفاكير ومشار وأولاد قرنق لايمثلون مستقبل الجنوب، وتوقع أن تنتهي الحرب سريعاً، وطالب الحكومة بالتحرك سريعاً والتخلي عن الحياد وإعادة صياغة وجهة نظرها تجاه الجنوب. مؤامرة سلفاكير: حمّل ديفيد ديشان الضابط السابق بالحركة الشعبية سلفاكير ميارديت رئيس دولة الجنوب مسؤولية انفجار الأوضاع بدولة جنوب السودان، لإقصائه الآخرين وانفراده بالسلطة و محاولته فرض سياسات ديكتاتورية وسعيه لإقصاء المعارضة وتهميش دورها.. وإتهم ديفيد سلفا بمحاولة اغتيال مشار بإيعاز من رئيس يوغندا موسيفيني الذي اقترح عليه وضع رؤية جديدة لتشكيل حكومة خالية من المعارضين خلال زيارته الأخيرة ليوغندا.. وأضاف ديفيد أن سلفا له مصالح مشتركة مع إسرائيل لذلك فهو ينفذ أجندة صهيونية.. وقال ديشان إن مشار له قوة كبيرة ويسيطر على أعالي النيل الكبري الغنية «بالبترول و الثروة الحيوانية والسمكية و الزراعية» والتي تتميز ببعدها الإستراتيجي، محذراً في الوقت ذاته من مغبة التدخل الأجنبي في الجنوب الذي أصبح له ذريعة كافية الآن للتدخل.. وتوقع ديفيد أن تنفصل ولاية أعالي النيل الكبرى قريباً، مشيراً إلى أنهم شرعوا في تكوين حكومة انتقالية تمهديداً لإعلان الانفصال.