ظل السودان يوصف على الدوام بأنه سلة غذاء العالم ،لكن هذا الوصف لم يتحول إلى واقع يوماً ما ؛فالإمكانات الزراعية الهائلة التي تتمتع بها البلاد ليست وحدها المقومات المطلوبة لتحقيق تلك الغاية.فالتمويل والمدخلات باهظة التكاليف تقعد الإنتاج الزراعي وتسهم في ضعف الإنتاجية من الحبوب الغذائية .ذاك الواقع مثل هاجساً للحكومة التي خرجت في أول أمرها بشعار (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) لكنها جوبهت بحصار خانقٍ أسلمها إلى وضعٍ هو مقاومة لم تصل إلى درجة النجاح المطلوب ،ولم تصل أيضاً إلى وضع الاستسلام الكامل .وان كان المراقبون يعيبون عليها فشلها في الإفادة من الموارد المالية التي وفرها تصدير البترول خلال السنوات الماضية التي سبقت انفصال الجنوب في دعم الزراعة . ولعل التفات الحكومة المتأخر نحو الموارد غير البترولية وعلى رأسها الزراعة ،كان محاولة لتوظيف هذه الإمكانات لتحقيق الاكتفاء الذاتي ،والاستفادة من الصادر في توفير العملات الحرة ،فكان برنامج النهضة الزراعية الذي أشرف عليه النائب الأول السابق علي عثمان محمد طه خطوةً في الاتجاه الصحيح ،لكن تعثر البرنامج وفشل في تحقيق النهضة المطلوبة في هذا القطاع الحيوي كما يقول مختصون، للازدواجية بين آلية تنفيذه ووزارة الزراعة الاتحادية .كذلك فإن المزارعين في عدد من الولايات ومن بينها القضارف منّوا النفس بدعم الدولة لمشروع الزراعة للصادر الذي لم تستكمل متطلباته ،ولم يؤت بالتالي ثماره المرجوة .هذه المحاولات التي أقعدها التمويل ولم تسلم من بوائق البيروقراطية وتضارب الرؤى والمصالح، حسب وصف بعض المهتمين بالشأن الزراعي، ثبطت العزيمة وأوهنت الأمل في مستقبلٍ واعد يعود فيه السودان بحق سلة غذاء العالم. بيد أن الحماس الشديد الذي وجدته مبادرة السيد رئيس الجمهورية التي طرحها على القمة العربية في الرياض ،دفعت أشرعة الأمل من جديد بدفقٍ من رياح الاطمئنان بأن العمل العربي المشترك من شأنه توفير التقانات الزراعية؛ لتخضر الأرض البكر الوادعة وتمتلئ القناديل بالسنابل لدرء المسغبة وتأمين الغذاء للأمة العربية. و على ضوء الرغبة في إنجاح مبادرة الرئيس ،شرعت الحكومة في إعداد الدراسات وفق أسس علمية ،حسب قول بروفسير مأمون إبراهيم ضو البيت وزير زراعة القضارف السابق والخبير المعروف ،الذي قدم شرحاً ،في ندوة على هامش معرض التقانات الزراعية بالقضارف،حول الدور المنتظر من الولاية في إنجاح هذه المبادرة ، وقد حمل حديث بروفسير ضو البيت إشاراتٍ لخطة الدولة في الاستفادة من الأراضي الخصبة في القضارف وكسلا والنيل الأزرق في زراعة الحبوب الزيتية للإسهام في تحقيق الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض إلى الدول العربية التي تزداد حاجتها له بوتيرةٍ متسارعة. لكن عجلة السياسة تسارعت خطواتها للوراء ، بأكثر مما توقع الجميع؛فقد جاء خبر توقف المصارف السعودية عن التعامل مع البنوك السودانية كضربة قوية جعلت الكل يفيق من الحلم الجميل . فهل جاء الموقف السعودي، الذي يميل المحللون إلى ربطه بخطةٍ تقودها الإدارة الأمريكية لتجديد العقوبات المستمرة لسنوات ضد السودان ،بدعمٍ من محيطه العربي بمثابة رصاصة تقضي على مشروع مبادرة الأمن الغذائي العربي؟ أم تغلب المصالح الاقتصادية على التباين في الرؤى والمواقف السياسية؟هذه الأسئلة تطرح نفسها بقوة على المشهد الذي يكتنفه الغموض في ظل الهجمة التي تشنها السعودية والإمارات على الدول التي تصنف بأنها تؤيد جماعة الإخوان المسلمين. ورغم أن الحظر الاقتصادي الأميركي الذي بدأ في نوفمبر 1997 ،شهد في الأعوام القليلة الماضية مرونةً ملحوظة ،أرجعها د. عادل عبد العزيز الفكي الخبير الاقتصادي المعروف في مقالٍ له نشر بالزميلة (السوداني)، إلى قبول السودان انفصال الجنوب ،إلا انه أشار إلى أن «الجديد الآن أن العقوبات يتم بعثها من جديد على أيدي أطراف إقليمية في إطار الحلف الجديد لمحاربة الإخوان المسلمين والدول التي تدعمهم ومن بينها السودان» .وإذا صح هذا التحليل فإن مشروع مبادرة الرئيس للأمن الغذائي العربي مهدد بالانهيار خاصةً مع التشدد الذي أبدته كل من السعودية والإمارات والبحرين في تعاملها مع دولة قطر الذي وصل حد سحب السفراء. ومعلوم أن الاقتصاد هو احد محركات السياسة ،والأخيرة كذلك تأثر حركتها في الاقتصاد . ويبدو المشهد الآن مفتوحا على كل الاحتمالات؛واقلها عودة الحصار الاقتصادي بقوة اكبر،بذات الطريقة التي بدأ بها أواسط تسعينيات القرن الماضي ،في ظل الحديث عن مراجعة اتفاقية الدوحة للسلام ،وما يجري من عمليات عسكرية تحاول بها حركة مناوي أن تعيد القضية إلي واجهة الأحداث العالمية بعد أن كاد يلفها النسيان،على اثر الاستقرار الذي شهده الإقليم خلال المرحلة الماضية.وهي قضايا متشابكة تسعي أميركا لجعلها حبلا واحدا تخنق به السودان ،مستغلة التقاطعات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية وتباين التقديرات في ما يتصل بإفرازات الربيع العربي ،والتنافس على قيادة المنطقة. ونحن على أعتاب القمة العربية التي تستضيفها أواخر الشهر الجاري دولة الكويت يبدو من اللازم على الحكومة أن تسعى لمخاطبة قضية الأمن الغذائي العربي باعتبارها خياراً استراتيجياً يتطلب من جميع الدول العربية التعاون لإنجاحه .كذلك فإن الدبلوماسية السودانية عليها واجب على صعيد إسكات الهواجس التي تساور بعض أشقائنا في التعامل مع الملفات السياسية الحساسة وعلى رأسها التقارب مع إيران والارتباط مع حركة الإخوان المسلمين .فترميم العلاقات السياسية مع محيطنا العربي من شأنه إفشال المساعي الأميركية لإحياء الحصار الاقتصادي الذي أضعف اقتصادنا وإن لم يستطع كسر العظم بعد. وفي ذات الوقت فإن الأمر يتطلب عملا دؤبا لتشجيع الاستثمار وتبسيط إجراءاته ،خاصة في القطاع الزراعي وذلك بتهيئة البيئة من خلال وضوح السياسات واستقرارها،وإلغاء التضارب بين الأجهزة الاتحادية والولائية ،وتحسين خدمات البني التحتية .فهذه الخطوات وغيرها من شأنها تحفيز المزارعين للدخول في شراكات مع مستثمرين عرب أو أجانب لتطوير وتعظيم المردود الاقتصادي للمحاصيل الزراعية خاصة تلك التي نملك فيها ميزات نسبية ؛وبذلك نحصن بلادنا من الابتزاز السياسي القائم على ضعف الاقتصاد وضغط الحاجة للغذاء.