نغادر أحاديث السياسة في هذا اليوم ونتحدث عن «أهل الله»، ولله درهم ،، فهم أصحاب الفضل في صياغة المزاج السوداني المتسامح.. يعتبر التصوف في السودان هو إطار الوعي الجمعي و الهيكل المفاهيمي الذي بُنيت عليه الشخصية السودانية، حتى أننا نجد «المفاهيم التاريخية» ماثلة في الترتيب الهرمي لمقامات أهل الطريق التي تتدرج في شكل عتبات أو مراتب تقوم على قاعدة التطرق العريضة التي تتشكل من المريدين والأتباع، وعلى قمة ذلك الهرم يجلس صاحب الوقت ، صاحب السلطة «الزمكانية».. هذا البناء المتناسق اقتبست منه كثير نظم الإدارة والسياسة الحديثة، وبه تستحصد التجربة الروحية للأفراد بالترقي في «مدارج النفوس السبعة» التي يحدثنا عنها وعن «ألوانها»، في حاضرنا الراهن، الشيخ محمد الكسنزاني وارث مقام الجيلاني في بغداد.. لكننا إذا تأملنا سبرنا غور الثقافة السودانية وتأملنا نصوص المدائح فسنجد أن مدارج النفوس السبعة هي علم مبذول للخاصة والعامة من أهل الطريق.. جاء في قصيدة للشيخ الأمين حاج حسين، «الأمين قماد» ، المتوفى عام 1969م قوله: «تجلى الله على غارات كهوفا نوَّر لي بصايراً ضَوَّا جوفا مُنادي الحق رفع لحجاب سِجوفا شلَّقا من عماها وزال لخوفا نفت أمارتا الكانت لهوفا من اللَّوامة رحلت بي دفوفا بوادي المطمئنة فَتَحْ ظروفا كمال الراضية بالمرضية طوفا تلا السور المسطرة في صُحوفا أرضاً طاهرة يوت نابعات سروفا مزارعا سنة والتوحيد جِروفا.. .. هذا النص ، يصور مشهد الصعود من سافل النفس الحيواني إلى مراقيها.. و كلمة «سجوف»، مفردها سِجف ، وهو الغطاء ، وهي كلمة عربية فصيحة يستخدمها حاج الأمين بجزالة، وهو من تلقى علمه كملازم ل «باب الخلوة »..! الشاهد هنا، أن المفاهيم التاريخية التى راج ذكرها في المدارس الاشتراكية الحديثة، هي علم مبذول في الثقافة الصوفية السودانية، ففي حقبة السلطنة الزرقاء تجد ود ضيف الله ينثر في مؤلفه «الطبقات» كثيراً من العبارات ذات المدلول التاريخي من نوع: «ما طابت تلك الثمرة إلا من تلك الشجرة ما انهزت شجرة بلا هبوب أنا توراً كمل كراه الما مِنْ جبلك ما بِعرف رطانتك».. إلخ .. بل إن المفاهيم التاريخية حاضرة بالطبع في النص المقدس حيث الإسلام يمتدح الحضارة ويدين البداوة لكونها مرحلة تاريخية متخلفة الأدوات والوسائل الحياتية.. جاء في القرآن الكريم على لسان يوسف عليه السلام مخاطباً أخوته: «وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو».. هنا مقابلة بين البداوة و السجن، إذ البداوة سجن للأعراب في شعاب الجبال، و يتعضد هذا المعنى بقوله تعالى: «الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ».. و «جدارة» الأعراب المشار إليها في الآية الكريمة هي منقصة، لأنها قلة استيعاب للأمر الروحي بسبب الانغلاق في بيئة صحراوية قاحلة.. إذاً، نستطيع التأكيد على أن المفاهيم التاريخية لا تنفرد بها المدارس الاشتراكية وحدها، بل هي موجودة في تراثنا، وإن كان للآخرين فضل اكتشاف قوانينها وتقديمها كأداة معرفية خلاقة.. لكن المشكلة كانت في تحول الأداة المعرفية إلى أيدلوجيا ،، والمشكلة خاصتنا، هي أننا لا نتفحص كنوزنا، بل نتطلع كثيراً في أيقونات الآخرين..!