حطت بنا الطائرة في مطار الخرطوم الذي ينتهي بكلمة (الدولي) كصفة للإنتساب العالمي مع رصفائه في بقاع العالم الأخرى، فلماذا لا يوصف بها وهو لا زال بكراً وصبياً بين أقرانه من الموانئ الجوية الأفريقية التي ما زال بعضها قابعاً بين الأحراش والغابات متجملاً بالأخضرار الإستوائي والمداري، في حين لفحت أشعة الشمس الحارقة الجدران الحجرية للواجهات المختلفة. دخولنا للصالات فرحاً بالقدوم ودهشة بالوصول ونحن نسابق الزمن ونتخطى الصفوف لنعانق من ينتظرنا على أطراف بوابة الخروج، يزيل عن القادم قدرة الملاحظة الدقيقة على ذاك التواضع المعماري والتجميلي الذي ظل ينتظره هذا المطار عشرات السنوات، حتى أضحى من أقدم المطارات الأفريقية وأقلاها تميزاً، ولكن ما أن تمضي لحظات حتى يزول جانب من تلك الفرحة اللحظية فنبدأ في التحلق يمنة ويسرة علناً نجد ما بين الزوايا ما يشير إلى توفر أقل الخدمات للقادمين، حيث تغيب اللافتات الإرشادية بشكل واضح رغم الاتساع النسبي لقاعة القدوم. هناك بعض التحسينات التي طالت صالات المطار خلال فترات متفاوتة، إلا أنها لا زالت دون الطموح، ودون العراقة التي كان يتميز بها على أقرانه في القارة، ليعلن شيخوخة مبكرة لن تجديها محاولات تبييض البشرة أو تصبيغ الجدران الخارجية والداخلية. واجهتنا الأولى لم يكتف بالتواضع كسمة لازمة، ولم ينتفض بعد ليزيل غبار السنوات العجاف فقط، ليظل حبيس الانتظار الطويل لذاك المطار الذي طال أمده، دون أن نعرف موعداً قاطعاً لولادته رغم المخاض الطويل. لعلني حريص على التفرس في وجوه مستقبلنا على واجهة كاونتر الجوازات الذين يمثلون سياجاً مانعاً حتى تكتمل التأشيرات اللازمة، علهم يمسحون جانباً من وعثاء الرحلة، ولكن رغم الانتشار لعدد هذه الكاونترات وسرعة الإجراءات وسلاستها، إلا أنني لم أتمكن من الفكاك من تلك العادة، لأقنص غالب الوجوه المكشرة كأنها متحفزة لمعركة نارية، في حين كنت أنتظر أطمع في تلك البشاشة على الوجوه التي لا أشك أنها تحمل كل ما هو جميل، إلا أن الطبع يطغى على التطبع كما قال لي مرافقي في الرحلة. وتشتد تلك التكشيرة الصامتة كل ما اقتربنا من أماكن تفتيش العفش، وقد قطع حبل ملاحظاتي عامل يحمل مطواة حادة يبقر بها (بطن تلك الملفوفات والمكيسات)، معلناً مرحلة جديدة من المعاناة غير المحسوبة، ليتسابق القادمون لرفع ما يتساقط منها هنا وهناك. هنا استعدت صالات مدن عربية وخليجية قريبة وأنا غريب بينهم لأجد الفارق الكبير بين واقعي وبين تلك المساحات الواسعة، التي حظيت بها أمتعتي من كرم الأستقبال والحفاوة دون أن تربكني لافتة الجمارك. ما زلت أحلم ومنذ أن غادرت هذا المطار قبل أكثر من عقدين، أن أعود يوماً وأجده منافساً بروعته وجماله ورونقه تلك المطارات التي نمت بعده وترعرعت على كنف موظفيه وفنييه، ولكن وجدت أن البون ما زال شاسعاً، رغم التميز الوحيد الذي نعتز به جميعاً وهو السودنة الكاملة داخل هذا المستضيف الأول. فاصلة: حدث خطأ فني تسبب في حجب فضاءات يوم الأحد الماضي، ونشر مقال آخر باسمي عن وزيرة التربية لا علاقة لي به، فعذري للكاتب والقارئ رغم ضعف حيلتي.