تهدف الأجهزة الأمنية وأجهزة العدالة الجنائية في مختلف الدول إلى منع الجريمة، والعمل على الوقاية منها وضبطها بشتى الوسائل والسبل، ولكن التطور التقني الذي نعيشه اليوم في كافة مناطق العالم وبلدانه، والمتمثل باستخدام الكمبيوتر، ونظم المعلومات، وشبكات الانترنت أدى إلى استحداث جرائم لم تكن معروفة من قبل، والتي تعرف بالجرائم المستحدثة، وهي جرائم من نوع فريد، تحتاج إلى تشريعات خاصة، وإلى وسائل إثبات مختلفة عما ألفناه في الماضي، وإلى أجهزة ومعدات تستخدم التقنية نفسها، وإلى كفاءات مدربة ومؤهلة على نحو، يمكن معه مواجهة ومكافحة هذا النوع من الجرائم، وإذا كان العلم ضرورة للعمل الوطني في كل موقع، فإنه في قطاع الشرطة- وبحكم مسؤوليتها- أكثر ما يكون أهمية وضرورة، فبالعلم تضع الشرطة استراتيجية رشيدة لعملها، وتتحرك وفق تخطيط دقيق، يحدد واجبات الحاضر ومسؤوليات المستقبل، فإذا أغفلت الاستعانة بالعلم في تحديد أهدافها، وتنظيم حركتها، تركت أعمالها للارتجال، وجعلت نجاحها رهن المصادفات. وإذا كان المجرم عندما يوجد بالمكان الذي يرتكب فيه جريمته ثم يغادره بعد ذلك، يصعب عليه أن يتجنب ترك طبعات حذائه، أو إطارات سيارته، أو بصمات أصابعه، أو آثاره المادية الأخرى، فإن التعامل مع هذه الآثار، وتحليلها والاستفادة منها في الكشف عن الجرائم لتكون في كثير الأحيان أدلة علمية قوية، لا يتم إلا من خلال توظيف المعرفة العلمية في تحليل هذه الآثار. وفي مناخ التسابق المحموم بين العلم وأدواته من جهة، الجريمة وأساليبها من جهة أخرى، لابد لنا من القاء الضوء على مجالات التطور التقني، وتفوق الجوانب التقنية في كثير من نواحي الحياة، وارتباط ذلك بالجريمة سلباً وإيجاباً، ولابد من الإشارة إلى أهمية التدريب العلمي والتخصصي في الشرطة بما يواكب هذا التطور السريع المحموم، ليكون درعاً للمجتمع من أخطار الجريمة وأشباهها، بإعداد الكوادر اللازمة من الرجال ذوي القدرات وتسليحهم بالمعدات التقنية لردع الجناة، وبسط الأمن، ومكافحة الجريمة، وأداء الواجب الإنساني على أكمل وجه. وقد مر التطور التقني بمراحل عدة، وفي كل مرحلة من مراحل هذا التطور تطورت الجريمة وأساليبها ووسائلها، وتفاقم الصراع المحموم بينهما، في الوقت الذي تستعين أجهزة الشرطة بالعلم في محاربتها ومجهوداتها، لا يتورع عالم الجريمة عن استخدام كافة الوسائل العلمية وغير العلمية لتحقيق أهدافه الجرمية، ولذا فقد تجاوزت الشرطة في برامجها التدريبية في كثير من البلدان مجرد التدريب النظري، لولوج ميادين التدريب المعملي التقني، لمواجهة الجريمة وكشفها ومحاربتها في كافة المجالات. ونظراً لأهمية المعلومات في عمل جهاز الأمن العام، بحيث يصعب أن يصل الأداء الشرطي إلى المستوى المطلوب، سواء من ناحية الفاعلية أو الكفاءة دون توفر المعلومات، حيث يترتب على عملية توفر المعلومات ووصولها في الأوقات المناسبة أهمية كبرى من خلال العمل على دعم عمليات جمع المعلومات والارتقاء بصورة تصنيفها وحفظها، واستدعائها، ومعالجتها، وتطويرها، وتحليلها، وتوطينها بأفضل صورة ممكنة لمكافحة الجريمة. وبالنظرة إلى مميزات الحاسوب الفنية والتقنية وأهمية المعلومات التي يوفرها لأجهزة الأمن العام، فقد استعانت به هذه المؤسسات في مختلف دول العالم، سواء في المجال الإداري أو في المجال القضائي، حيث أصبحت لهذا الجهاز استخدامات في مجال الكشف عن الجرائم، مثل الكشف عن جوازات السفر المزورة، وغيرها من الجرائم، وتمر الحضارة الإنسانية اليوم بنقطة تحول في مجال التقدم التقني، ومن المتوقع أن تؤدي إلى تغيرات جذرية عميقة بين المجتمعات البشرية وقيمتها السائدة، فالانجازات الملموسة والمتسارعة للتقنيات الحديثة مثل الحاسبات الالكترونية، وتقنيات المعلومات وشبكات الاتصالات والإنترنت أخذت تنتشر لتشمل مختلف مجالات الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، وبدأت تفرز تأثيرات عميقة في البنى الأساسية والهيكلية لمجتمعات العالم، وتشكل تحديات في جميع المجتمعات. وللتطور التقني إيجابياته، فالحضارة وتطورها السريع تدين للعلم بكافة فروعه، إذ إن العلم في ذاته لا يسعى المعرفة المجردة، وهو ليس عملاً عبثياً في تطوره وتجدده، وإنما هو سعي هادف لتطوير حياة الإنسان ورفاهيته في كالفة المجالات، ومن جوانب هذا التطور الاستعانة بالعلم في الوقاية من الجريمة، ومكافحتها، واكتشافها، وسبر أغوارها. وعلى الجانب الآخر تعددت الآثار السلبية التي نجحت هي الأخرى على مدى التطور التقني في كافة المجالات الجرمية، سواء أكان في الجرائم الماسة بالحياة الإنسانية، أو الجرائم الأخلاقية، أو جرائم الأموال، أو الجرائم الماسة بأمن الدولة، بل والجرائم المتعلقة بانتشار أسلحة الدمار الشامل، فبقدر ما تفوق الإنسان في أدوات مكافحة الجريمة، تفوق في ابتكار أدوات الفتك والعدوان، مما يضاعف هموم ومسؤوليات العاكفين على تأهيل وتدريب قوات الشرطة والأمن، ولا سبيل للتغلب على هذا إلا بإعداد العدة، وتوفير الامكانات والمعدات اللازمة، لخوض المعركة ضد الجريمة العادية والمنظمة. فرغم الفوائد العديدة التي لا تحصي للاستفادة من شبكة الانترنت، إلا أنه في الوقت نفسه قد زادت أساليب إساءة الاستخدام لتلك الشبكة، ومنها الاستخدام لارتكاب بعض الجرائم في تطوير هذه التقنية لرغبات بعض المجرمين، وبما أن التوجه نحو العولمة في تزايد مستمر، فإن الجريمة المرتكبة بواسطة الانترنت ليست جريمة على النطاق الوطني لكل دولة، وإنما هي جريمة عابرة للدول والقارات، وبما أن هذا النوع من الجرائم هو مجال جديد على الساحة الأمنية، فإن المكافحة تلتزم ضمن أمور أخرى المعرفة الفنية، والإلمام العالي من جانب رجال الأمن بخبايا تلك الشبكة العالمية (الإنترنت)، مما يزيد الأمر صعوبة في مجال الإثبات الجنائي، إنه ليس هناك دليل مادي كالبصمات أو أية آثار للجريمة، بل أن الدليل ولو كان موجوداً، فإن بمقدور الجاني أن يقوم بمسح آثاره عن الشبكة، أضف إلى ذلك فإن هناك فراغاً تشريعياً في مجال مكافحة الجريمة المعلوماتية.