تشتد القناعة يوماً بعد يوم بأن اللقاءات الدورية للمسؤولين في الشرطة والأمن في البلاد العربية، قد أصبحت ضرورية وملحة في هذه الفترة الدقيقة من حياة أمتنا العربية التي تواجه فيها أكثر من غيرها من الأمم، أكبر قدر من تحديات هذا العصر بتغيراته السريعة والمتلاحقة. لقد وجدت الأقطار العربية عندما تمكنت تباعاً من نيل حريتها وانتزاع استقلالها، أن لدى كل منها جهاز أمن يختلف عن مثيلاته في الأقطار الأخرى في وجوه متعددة وعلى الأخص من حيث البناء التنظيمي والاختصاصات والمسميات وأساليب التأهيل والتدريب، بل من حيث المصطلحات الشرطية المتداولة ومدلولاتها، كما أنه ينمو ويتطور بمعزل عنها. إن البلاد العربية تشكل بمجموعها مسرحاً واحداً للجريمة لما تتميز به من تماثل في أساليب الحياة وتشابه في العادات والتقاليد وتقارب في مستويات المعيشة، بالإضافة إلى الروابط القومية والتاريخية والثقافية التي تشد شعوبها والحدود الجغرافية المشتركة والمفتوحة بينها مما يسهل على من يرتكب جريمة في بلد ما أن ينتقل بيسر إلى بلد عربي آخر يمارس فيه الفعل الجرمي ينفس الدافع والطريقة. تعتبر مهمة الشرطة في أي بلد بمثابة حجر الزاوية في البناء الاجتماعي والأساس الذي يقوم عليه ويستند إليه النشاط الحكومي كله، واذا كان الإنسان يستطيع أن يستغني عن بعض الخدمات أو يستعيض عنها بغيرها، فإنه لا يستطيع بحال من الأحوال أن يعيش غير آمن على نفسه أو ماله أو عرضه، ولا أن يرى مصالحه مهددة بسبب طغيان الفوضى.والعنصر البشري هو أثمن العناصر في أي إدارة، ليس لكونه المفكر والمبدع فحسب، وإنما لأنه العنصر الوحيد الذي باستطاعته استخدام كافة العناصر الأخرى واستثمار عائدها، ومهما أحرزنا من التقدم والارتقاء في مجال الإدارة العلمية والتحديث التقني، فسوف يبقى اعتمادها على البشر هو الأساس في الوصول إلى هذه المكاسب العلمية والتقنية، وإدارة الشرطة أكثر من أي نوع من أنواع الخدمات العامة اعتماداً على الفرد، وحتى في الإدارات الشرطية التي أمكنها أن تقتني نظماً علمية راقية، فإنها لم تستطع أن تستغني بنظمها عن الفرد الذي يتميز بالتفكير والقدرة على تقدير المواقف الاجتماعية والإنسانية المرتبطة دوماً برسالة الشرطة وبأهدافها. إن العناية بتأهيل وتدريب عناصر الشرطة من مختلف المستويات وتسليحهم بالعمل والمعرفة وصولاً إلى تكوين العنصر القادر على أن يضع معارفه ومهاراته في خدمة الحياة العلمية، يأتي في مقدمة الأهداف التي تنشدها إدارات الشرطة خاصة وأنه قد مضى العصر الذي يعتمد فيه رجل الأمن على محصلة خبرته وتجاربه ومعلوماته الشخصية وحل محله زمن العمل والتكنولوجيا وما يستتبع ذلك من جهد مستمر ودراسات متخصصة، بحيث أصبح تطور جهاز الأمن يقاس بما هو متوفر لديه من الوسائل العلمية والخبرة التقنية وبما حققه من تقدم في هذه المجالات، سواء بتوفير الأجهزة العلمية أو بتهيئة الخبراء المتمكنين من استيعاب هذه الأجهزة واستخلاص أقصى النتائج منها والقادرين على مسايرة التطور السريع لدى الدول المتقدمة، وجعله في متناول أيدي العاملين في مجالات مكافحة الجريمة. هذا ويمكن للدول العربية حديثة العهد بالتجارب والخبرات، أن تختصر الوقت والجهد بالاستعانة بالدول التي سبقتها في هذا المجال وذلك: أ/ بتدريب فرق متخصصة لديها أو بالحصول على نتائج تجاربها وخبراتها ومنجزاتها في ميادين المختبرات الجنائية، البصمات، الأسلحة والمرامي النارية وآثارها التصوير، التصنيف الجنائي - تحقيق الشخصية وغيرها من المجالات الفنية. ب/ الاطلاع على تجاربها وأساليبها في مكافحة المخدرات والبغاء والتهريب والتزييف والترويج وضبط العصابات وغير ذلك، وتبادل المعلومات عن طريق تعاون مثمر وفعال في هذه المجالات، بالاستعانة بما يتوفر لديها من إمكانات تأهيلية وتدريبية عن طريق إيفاد بعثات من مختلف المستويات للتدريب لديها، ويمكن للدول المتطورة أن تفتح أبواب كلياتها ومعاهدها ومدارسها للموفودين من الدول الناشئة والنامية، وذلك بنسب ثابتة في كل دورة. ج/ في ضوء الوظائف الاجتماعية الجديدة الذي ينتظر من الشرطة العصرية أن تؤديها بهدف تعميق صلاتها بالجمهور وتنمية أسباب التعاون بينهما، فإن العلاقات العامة في الشرطة تلعب دوراً رئيسياً في هذا المجال، مما يستتبع تبادل الخبرات والخبراء ونتائج التجارب بين الإدارات المعنية بهذا الشأن. د/ وفي حقل الدراسات والأبحاث، فإنه من المفيد تبادل الأنظمة والأبحاث الميدانية والدراسات المقارنة التي تتناول مواضيع تتعلق بتحقيقات الشرطة والبحث الجنائي (التحري)، وجميع الاستدلالات والأدلة الجرمية والموضوعات المتخصصة من أعمال الشرطة. تؤكد الشواهد أن العالم قد أصبح اليوم عالم اتصالات مذهلة، تنقل قيماً وحضارات وطرائق وأساليب عمل وأنماط حياة عبر القارات، وتخلق بالتالي مناخات فكرية وحضارية، وتحفز آمالاً وتوقعات تؤدي بمجملها إلى تفتيح الأذهان، وتكون تصورات جديدة للعلاقات الاجتماعية، وتغير في نظرة الناس للأمور والحياة، وعلى الشرطة أن تسارع بدورها في اتجاه الحدود الجديدة المترامية لوظيفتها وقيمتها الاجتماعية، بحيث تصبح غايتها الحقيقية أن تخلق مناخاً إنسانياً جديداً، وأن تمكن المواطن من العيش منسجماً مع بيئته، مدركاً لقيمه الاجتماعية، باعتباره عضواً في مجتمع يجد فيه نفسه وأهدافه. ومن هنا يصبح من ألزم الضرورات تحديد أهداف متقدمة للشرطة، تتلاءم وتطور مجمعاتنا- ذلك أن المستقبل القريب سوف تتحكم فيه الإنجازات العلمية والتقنية الضخمة، وسوف تواجه الشرطة تحديات قوية تفرض عليها السعي الجاد لملاحقة أهداف تتحرك أمامها بسرعة عالية جداً، وفي محاولتها للحاق بهذه الأهداف يمكنها أن تضاعف من قدراتها على التطوير والتعلم، فالعلم والتقنية يحددان الطريق الوحيد الذي يمكن أن تسير فيه الشرطة لتحقيق أهدافها خلال هذه المرحلة، والشيء المهم الذي ينبغي إبرازه هو أن دور الشرطة في المستقبل يجب أن يمتد إلى أبعد من مجرد المجهود العلاجي أو الوقائي، فتحديات المستقبل تتطلب شرطة علمية متطورة، وقدراً كبيراً من الطاقات الفنية، مع توفير كل ما يتصل بجوانب الحضارة الآلية. لواء شرطة متقاعد مدير إدارة المباحث الجائية المركزية الأسبق