الأخ الكريم ابن الكرام محمود الخضر عاليب من كتاب جريدة الأيام الغراء، عقَّب على ما كتبت بجريدة آخر لحظة (كلونيا وعقارب بربر) وكعادته قسا عليّ كثيراً وأدخلني في (ضفوري) بما أفاض على شخصي الضعيف وعلى أسرتي من عبارات التبجيل والتقدير والثناء الذي أتمنى أن أكون أهلاً له وليس لي يا (أبا الخضر) إلا أن أقول: أستغفر الله وجزاك الله عني وعن أسرتي خيراً وكل إناء بما فيه ينضح ، نعم يا محمود دائماً أصفها ببربر الخيرات وذلك لما لقيته في طفولتي وصباي وشبابي وكهولتي وشيخوختي من خيراتها المادية والحسية والاجتماعية والنفسية، أهيم بها كما هام الخليل بعزة وكما هام شعراء لبنان (بجيرون).. أذهب في زيارة أو مناسبة الى بربر الغالية علينا، وهذا بالمناسبة عنوان المجموعة التي أنشأتها ب(الفيس بوك) مجموعة ثقافية اجتماعية يسجل فيها أحباب بربر تاريخها، شخصياتها، معالمها، ذكرياتهم، عادات أهلها، طرائفهم، اخوانياتهم أصالتها شعراً ونثراً بالفصحى وبالعامية بعيداً عن ساس يسوس وسائس ومسوس، وهذه الأخيرة فيها رائحة المس الذي لا تخلو منه السياسة، ونعوذ بالله ولا يعني ذلك عدم التطرق لمعاناة الناس وآلامهم وآمالهم، ولكنه يعني البعد عن التحزب والتشنج والأغراض والأمراض، قلت يا محمود عندما أزور بربر أطلب منهم أن يضعوا لي عنقريب في الحوش أمام راكوبة حبوبتي تحت ضوء القمر، وأطفيء كل الأضواء الصناعية وأسهر ليلتي تلك أعيشها طفلاً، أعيشها صبياً وأتدرج حتى أصل لذكريات تلك العقرب التي كتبت قصتها، وفي الصباح عقب صلاة الفجر اخرج من حوشنا بحي المنيدرة واتجه غرباً يكون حوش جدي عم ابي ابراهيم جبورة على يميني، وحوش آل فرح سرور على يساري، اواصل السير فيكون حوش آل البشير داؤود على يميني، وحوش آل فقير على يساري، وخطوات أُخر وحوش جدي عثمان البخيت على يميني، وحوش آل عبد الماجد وآل بحيري على يساري، ثم بيت العم محمود مجذوب أبشر على يميني، وبيت عبيد على يساري، وأرى قلبي لا بعيني كل من كان داخل هذه الديار واصل الى بيت آل درويش الذي كان يقفل الشارع فازالته البلدية ليفتح الطريق فأعبر الى تلك الربوة التي اشرف منها على الجزيرة، تقودني خطاي الى حبيبتي (الحرازة) التي كانت شاهقة شامخة بأرض آل الضوي، كتبت ذكرياتي عنها سابقا وتاوقت بينها وبين دومة ود حامد للروائي العالمي الطيب صالح، مرة اجتر تحتها ذكريات ثرة خاصة وعامة (الكرامة) التي كانت تقام تحتها أيام الدميرة، فيضان عام 1946 الذي أغرق ساقها حتى نصفه حتى أشفقنا عليها، ولكنها وقفت شامخة وقفة الرجال الذين حموا المنازل وترسوا البلد بأكياس الرمل، النساء اللاتي كن يأتين بعد مغيب الشمس بالنفساء التي أكملت اربعينها لالقاء قطعها التي كانت تستعملها أثناء الولادة بالنهر، ثم يتناولن الأرز باللبن واللقيمات تحت الحرازة، انطلاق المظاهرات من تحتها ونحن تلاميذ بالوسطى.. جلوسي تحتها أنظم تجاربي الشعرية الأولى.. تتوالى الذكريات التي قتلوها يوم أن جزوا ساقها واجتثوا جذورها، وباعوها وقوداً للمخابز.. أحرق ذكرياتي ومشاعري قبل أن ينضج الخبز، وفي بربر أسير هائماً على الأرض دون أن أضع خطة لسيري من شارع الى شارع ومن زقاق الى زقاق أو من زقاق أو من (زنقة الى زنقة) هنا بيت فلان وهنا آل علان، وذا المرفق الفلاني، وذاك كان وكان عم فلان، وهنا ميز المعلمين، وكان هنا نادي النهضة، وهذه كانت الشفخانة، فمحطة السكة الحديد، وهذا مكتب البريد، وشارع السوق الذي يقود الى المركز القديم، شرقه المدرسة الأولية الشمالية التي تعلمت فيها.. الخ اعود الى البيت مشحوناً بطاقة عاطفية لا تقاس (بالكيلواط). عفوا.. محمود فقد سرحت مع نفسي وأنت من تعذرني.. فقد عايشت هذا الإحساس كما حكيت لي مرات.. مداخلتك عن كلمة (وفرة) بمعنى كثرة رجحتها أنت للخيرات.. وحسبت عليّ أن وجهتها نحو العقارب.. ولكنك اجزتها أو جوزتها للتماسيح، وذكرت التمساح العشاري الذي يوصف بذلك لأن طوله يبلغ عشرة أذرع، حيث يتمتع بالقوة والمنعة والضراوة ولعله اختفى الآن في تواضع بعد ظهور التمساح الملياري وأخذت علي وصفي للعقارب بالوفرة، ثم عدت واوردت معلومة عن بيعها بواقع سبعين جنيهاً للرأس، فهي قد أصبحت من الصادرات الغريبة للمنطقة وأن أحد الأجانب يعمل على شرائها الأخ محمود صادراتنا من المنطقة أخذت أشكالات غريبة بعد الذهب، فأصبح هناك طلب للمكواة القديمة التي كانت تعمل بالفحم، ولماكينات الخياطة القديمة، ولصحون الطلس القديمة، ويدور عنها كلام يصل حد استخراج اليورانيوم من هذه الأشياء.. ويبقى أغربها طلب العقارب (قول يا النبي نوح) كما كانت جدتي تقول لتحصننا من العقارب.