الأُنس جميل فى البادية، النسيم الطيِّب يُغري بالانطلاق مِنْ كل قيود الزمان والمكان، وذكرى ود أبو سِنْ لم تزلْ خالدة، فهو عركي من ناحية أُمه، وهو الغائب الحاضردوماً، في كل مجلس من مجالس البُطانة.. للوهلة الأولى، تفتقد الأُنثى في مجتمع الشكرية، وهو مجتمع ذكوري بامتياز، لكن ما أكثر، اللائي أثبتن وجودَهُن، وفراستهن، وشاعريتهن، في ذلك المُجتمع..المرأة هنا، بالإضافة إلى كونها أُنثى حاضرة في كل الغناوي، هي «الأصل».. والعارفون وما أكثرهم هنا يؤكدون، بأنّ «الذات أُنثى»! من هاتيك النسوة باهرات الحضور، شغبة الكاهلية، وهي بدوية مرغومابية، أحبّتْ وتزوّجتْ فارساً اسمه «ود أقلشْ».. قالت فيه أشعاراً ثائرة، إثر مقتله في إحدى المعارك.. وبرعت شغبة في تصوير حروب الشكرية مع الكواهلة، واشتهرت في التراث الشعبي السوداني، بهجاء ابنها حسين، لأنه تجنّب طريق الخطر، وأصبح «فكي خلوة»..! قالت في تعييره: «يا حسين أنا أُمّكْ، وإنت َماكْ ولدي.. لاكْ مَضْروب بحد السيف نَكَمِّدْ فَيْ.. ولا مَضْروبْ بلِسانْ الطيرْ نَفَصِّدْ فيْ»..!! وفي تاريخ البُطانة، وردَ أنّ الشيخ تاج الدين، حين جاء إلى السودان، قام بتسليك أبناء زعماء القبائل، وبين أولئك كان «شَاعْ الدِينْ ود التِويمْ» جِد الشُكرية.. الشكرية ما زالوا يتمسكون بهذا الاسم. فقد برز لنا في مجلس الدُّوباي، أحد شباب العدلاناب، يحمل هذا الاسم: شاع الدين كيكل.. كأنه أراد بحضوره هناك، تجسيد ماضي الأيّام..! وحتى أتحسس المسافة الفاصلة بين الماضي والحاضر، ليس لي إلا تحدي قوانين المُجتمع الأبوي.. سألتهُم مباشرة عن «نُسوانْ البُطانة»، فجاءني الرّد سريعاً وحاسماً: «شِنْ بتدور بَهِنْ، بناتنا وماسكات أدبهن، وسارحات بي غنمهن»..! وانطلق شاع الدين فى الدُّوباي: «اَلْحُقُنْ إنْمَلَنْ، والدَّابِي جَاتُو فَضِيحتو.. ومو خَاتِي، إنْ مَرَقْ، ضاقَتْ عليهو فَسِيحتُو.. إنْدَشَّ السرِحْ، كَرَفَتْ هَواهو مَنِيحتو.. والمَحَريبْ شَهَقْ، فتَّحْ قَزايِزْ رِيحتُو».. جاراه آخر، بما هو مكنون في صدري من غُنا ود شوراني: «الضّحَوي إنْدَفَقْ، كلْ الأراضِي بَسطّهَ.. رَخّىَ جِناحو، بَاهْله اصْفَاحُو، دُورْ مَا وَطّهَ.. بَي قُدُرْتْ الإلَه كلْ حَاجه لاقِيَه غَرَتّهَ.. إلا قُلوبنا نَحْنَ، ألْمِنْ فِلانَه مَرَضْتّهَ»..! وتدفّق آخر: «بَرْقِكْ ياأُمْ شُروفاً شَابَه عَلا وَوَطّه.. وشَرَفَتْ لَيْ مَلامَحتُو أُمْ شُلُوخَنْ سِتّة.. أسْيَادِكْ بِسِنْدُو التّالِي زَمَنْ الشَطّة.. بِعَشُّو الضّيفْ كُبَادْ وبُرُوكْ دَعولْ مُو فَتّة»..! طاب الأُنسْ في الليل، وليل البُطانة يضيئه «أبوفانوس».. لكنّهم قليلاً ما يقولون الحقيقة للغُرباء.. قالوا لي إنّ تلك الأنوار المتناثرة في الأفق، ما هي إلا أضواء مصابيح الخِيّام، أو أضواءُ محاريث..! مع هزيع الليل تتمدد الحكايا.. قالوا إنْ خيمةً من خيام القبيلة احتضنت فارساً «جَنباً، يقِلبْ البيعة».. لمّا أقبلَ ذلك الفارس على الزواج، «إتْحَزَمِنْ حرّومو، ومشن وجابِنْ الخبر».. عمته أُخت أبوهو، وصفت ليهو العروس، قالت: «أكان القِسمة يا ود الرُجالْ بَيضاَ .. تَخَتِمْ وتَعْرِقِنْ، كَافة بَناتْ حَوّا.. خَفيفةً في الغَرَقْ تَنْقُزْ كما الرِيشَاَ.. وتَقِيلةً في الحديثْ، لامِنْ تَقُول بَكْماَ»..! الأُخت، وصفت سماحة ورشاقة العروس، وقالت: «إنْ وَقَفَتْ عَديلة، وإنْ مَشتْ مَبْرومة.. وإنْ قَدَلتْ مَعجّنة، في الوسط مَقْسُومة.. وإنْ قَعَدتْ مَوَهّطة، وآآ قَسَاوةْ القُومة.. مَبْرُومة الحَشَا، عَجْوة مَحَسْ قَدّوُما»!.. أمّا الخالة، فقد وصفت «تِرباية البِنَيّة»، وهي تحكي مشاهداتها في رحلة البحث: «وصْلتنا خَتْولنا الفطور، والراسية كانت مَاها فِيْ.. قُتْ يِمْكِنْ تَكونْ حَايْمَة في الفريق.. أتَارِيها فِي مُراح الغَنَمْ، تَلاوِي في الْبَهَمْ..! بِتَوْسِمْ الدّايِرْ وَسِمْ ، وتَعْلِفْ الدّايِرْ عَلِفْ.. تَحِلبْ، تَجُزْ، وتَصُرَّهِنْ!».