٭ يبدو أن كل يوم يمر يؤكد توقعات المراقبين الحذرين والمحللين الموضوعيين بأن «الحوار الوطني» المرجو.. قد دخل في «حالة سريرية» هي أقرب إلى الحرج منها إلى الاستقرار.. حتى لا نقول إنه قد تمدد في «غرفة الانعاش».. فالخطوط بين الفرقاء- الحكومة والمعارضة- تتوازى، لا تلتقي ولا تتقاطع حتى تنتج بعض الأمل في أن يخرج السودان من وهدته وأزماته المتشابكة التي استدعت اطلاق المبادرة الحكومية من أجل الحوار ابتداءً.. فبعد خطاب الرئيس البشير الأخير في مؤتمر الحزب الحاكم لولاية الخرطوم، بدأ كل شيء يتراجع، وأخذ البعض يعيد النظر في حساباته التي جعلته يذهب إلى مائدة الحوار ويشارك في لجانه وينشط في جذب الفرقاء واقناعهم بجدوى الحوار كما فعل غازي صلاح الدين رئيس حزب «الاصلاح» عضو لجنة ال«7+6». ٭ بالأمس- الاثنين- طالعت حوارين صحفيين مهمين لمسؤولين كبيرين ينتمي أحدهما إلى الحكومة والآخر إلى المعارضة.. الأول هو د. نافع علي نافع مع «الرأي العام» والثاني هو الأستاذ محمد علي جادين مع «اليوم التالي».. لم يقتصر الحديث مع الرجلين على موضوع «الحوار الوطني» بل تفرع ليشمل قضايا ومشكلات الكيانين السياسيين الداخلية.. «المؤتمر الوطني» وأزماته الحزبية ومنافسات منسوبيه على المناصب والمواقع في مؤتمراته الولائية.. و «تحالف الاجماع الوطني» وخلافات أحزابه وشخوصه حول اعادة الهيكلة وآليات اتخاذ القرار ومسوؤليات التنفيذ فيه.. لكن ما همنا من افادات الرجلين لاغراض هذه «الاضاءة» هو حديثهما وتصوراتهما المتصلة ب«الحوار الوطني» المأزوم. ٭ د. نافع علي نافع، أعلى صقور «الوطني» تحليقاً، بدا في حديثه أكثر ارتياحاً وطمأنينة بأن «الحوار الوطني» لن يمس سلطة الحكومة أو مشروع الحزب الحاكم وديمومته، ومثلما قال في حوار سابق مع ذات الصحيفة فإن «الانقاذ أذكى من أن يفكك بالحوار، ذهب في حديثه الجديد إلى القول بصراحته المعهودة: إن موقف القوى السياسية من الحوار الوطني والانتخابات متباين جداً. فهناك قوى رافضة للحوار مبدأ ولا تؤمن إلا «بتغيير النظام» ولا توافق على الحوار إلا اذا أدى لتصفية النظام حتى قبل بدايته، وهي الحزب الشيوعي واحزاب البعثيين وهذه المجموعات غير الراغبة في الحوار، ومهما قيل أو تأجلت الانتخابات أو «تعدلت الحريات» فإنها لن تدخل الحوار، فهي لا تريد «أن يكون الوطني جزء من الحوار»!!.. وتريده أن يصفي نفسه.. لم أفهم ماذا يقصد الدكتور بأن الأحزاب المذكورة لا تريد أن يكون الوطني جزء من الحوار.. فمع من تتحاور إذاً إن لم تتحاور مع الحكومة للوصول إلى «منطقة وسطى»، هي التحول الديمقراطي الذي يخرج البلاد من الشمولية وقبضة الحزب الواحد إلى التعددية الحقة والتنافس المفتوح من أجل التداول السلمي للسلطة والشفافية والحقوق المتساوية في توزيع الثروة.. فلا يعيب هذه القوى أن تسعى إلى حوار من أجل «تغيير النظام».. فإذا كان ليس لدى «النظام» استعداد للتغيير- دون اقصاء طبعاً- فعلاما الحوار أصلاً.. أيكون للأنس أو اجترار الذكريات مثلاً؟! ٭ ويمضي د. نافع كعهده وبصراحته الصادمة إلى آخر الشوط ويقول هم يلحنون القول ويقولون نحن مع الحوار، ولكن اقرأ شروطهم، وهي غير مدسوسة، فهم يقولون إنهم لن يرضوا إلا بحوار يقود إلى «تفكيك النظام» فهذه مجموعة «ميؤوس منها» ولن تكون مع الحوار.. فهي جزء من تيار الآن في العالم العربي بالذات، تيار يدعو لاقصاء أي شخص يريد أن يكون لديه توجه اسلامي، ولذلك تسمع الحديث عن الاسلام السياسي، فهم ضد الاسلام السياسي، وأن الديمقراطية قد تفضي إلى الديكتاتورية لو أتت بالاسلام السياسي، وأنا لا افهم أن يُصحح هؤلاء للناس ويفرضوا عليهم انك لا تستحق أن تكون سياسياً أو حزباً تتولى إلا أن تكون «علمانياً» أو «رافضاً للدين».. لا يمكن- قطعاً- أن نتهم الدكتور بأنه لا يفهم في السياسة، لكنه أخرج ذات العملة القديمة من جيبه الخلفي ليتهم الآخرين بأنهم يريدون اقصائهم لأنهم «مع الدين» والآخرين «رافضين له»- كما قال- وهو يعلم علم اليقين أن المشكلة لا صلة لها من قريب أو بعيد بتوجهات أو مرجعية دينية، انما يتعلق الأمر والجدل كله باستغلال الدين في سوق السياسة، لتلويث الدين وافساد السياسة، بما في ذلك تبرير العنف والقمع باسم الدين، كما نرى اليوم طراً في العراق وسوريا وليبيا وحتى في مصر القريبة. ٭ أما حديث الاستاذ محمد علي جادين، وهو رجل قليل الكلام، ويتصف بين رفاقه البعثيين بالرصانة وسعة الاطلاع، فقد تناول موضوعة الحوار الوطني من أكثر من زاوية، بعد أن شخص علل التحالف المعارض وادوائه، فكان مدخله إلى الحوار الوطني هو سؤال المحرر عّما إذا كان «التحالف» سيرِّوج للانتفاضة في الفترة المقبلة.. أو يمكن أن يغذيها إذا خرجت؟ فرد جادين بالقول: سيمضي الخطان، خط الانتفاضة وخط الحل السياسي السلمي الشامل، وهذا مطروح منذ مؤتمر مصوع، وكذلك (اعلان باريس) وسنستخدم المتوفر مثلما تتطلب السياسة.. يقصد أن الظروف الموضوعية هي التي ستفرض على المعارضة أي السبيلين تسلك، وليست الرغبة الذاتية للتحالف أو المعارضة. ٭ وحول الاحداث المتسارعة في المنطقة العربية والأفريقية، ومدى تأثيرها على السودان، يجيب جادين بقوله: قطعاً إن السودان يتأثر بالمحيطين العربي والأفريقي، وأبعد من ذلك يمكن القول إن القوى السياسية السودانية هي امتداد لما يجري هناك، والآن حدثت تحولات كبيرة في مصر وسوريا وليبيا، ومثل موقف الامارات والسعودية من الإخوان المسلمين، وظهور «داعش»، كل ذلك يؤثر على السودان والحكومة وتحالفاتها السابقة وعلى المعارضة، وعلى مستوى افريقيا هناك مخاوف من الانفلات الأمني في السودان والمجتمع الدولي يبحث عن أمن هذه المنطقة لأن له فيها مصالح.. وأجادل أن التحولات والمواقف الأخيرة من الاسلام السياسي ستصب في مصلحة المعارضة، بمعنى أنه أصبح للتحالف حلفاء في الخارج ضد الاسلام السياسي.. وأكثر من ذلك فإن التحولات الاقليمية تعطي «حكومة الانقاذ» فرصة أخيرة لمواجهة التأثيرات الاقليمية واستيعابها، وإذا لم تتعامل «الانقاذ» برشد، فحتماً ستضيع ويضيع معها السودان.. فحتى هذا المعارض القوي للانقاذ، «البعثي» محمد علي جادين، ينظر ويحلل التطورات الإقليمية ولا يرى بأساً من أن تتعامل «الانقاذ» برشد وانفتاح مع القوى الأخرى وتقبل بالتحول الديمقراطي السلمي حتى لا تضيع الانقاذ أو حزبها ويضيع معها السودان ويتمزق إرباً، وليس كما يقول الدكتور نافع بأن المعارضين ومنهم «البعثيين» لا يريدون حواراً إلا إذا انتهى إلى «تصفية الانقاذ» أو كما قال.. فالتصفية لا تكون بالحوار إنما بسقوط النظام عنوة و بالقوة يا دكتور، كما فعلتم أنتم في 03 يونيو 9891مع الديمقراطية الثالثة، حينها تكون التصفية ويكون الاقصاء. ٭ ورداً على سؤال حول مصير الحوار وعما إذا كان لايزال لدى الرئيس البشير فرصة ماثلة لاحداث التسوية المطلوبة.. بدا جادين أكثر تفاؤلاً من نافع حيث اجاب بالقول: نعم، أمام الرئيس البشير المسار الجديد الذي فُتح في (أديس أبابا) مع الصادق المهدي و أمبيكي ومجموعة (7+7) والقوى الدولية.. هذا مسار جديد يمكن أن يُوصل الناس إلى تسوية.. البعض يشير إلى أن مشروع أديس سيكون «نيفاشا جديدة»، لكن ذلك غير صحيح، لأن نيفاشا كانت «اتفاقية ثنائية» وأديس أبابا يمكن ان تحصل على اجماع من القوى السياسية.. وحتى عندما طرح عليه محاوره موضوع الانتخابات التي يصر الوطني على اجرائها في موعدها مع رفضه للفترة الانتقالية، بدا جادين حذراً من الاندفاع وراء ما يصدر من تصريحات من الوطني أو غيره، واعتبر تلك التصريحات- بفطنة السياسي الخبير- من قبيل المناورات والضغوط التي تسبق الحوار لتحسين الشروط، واعتبرها بمثابة حوار غير مباشر، واستبعد أن تقوم الانتخابات اذا استمر الحوار بشكل جدي.. فالرجل غير مستيئسٍ في أن تدفع جملة التطورات المحلية والاقليمية والدولية المتسارعة الفرقاء إلى الحوار.. برغم التباين والتباعد والتوازي الذي هو طابع اللحظة الراهنة في مواقف القوى الحاكمة والمعارضة.