في خواتيم الثمانينيات إن لم تخني الذاكرة.. كانت هناك مباراة مهمة بأستاد الحصاحيصا تجمع بين مريخها ورومان ود مدني.. ضمن تصفيات أندية الإقليم الأوسط بدوري السودان.. وقد اقترحت على الزملاء الأصدقاء المرحوم بكري نور الدائم وسمير الهادي ويوسف أحمد بشير مدير الكرة بسيد الأتيام آنذاك.. أن نسافر إلى الحصاحيصا مبكراً والمقيل تحت ضيافة الصديق العزيز الأستاذ مزمل يعقوب.. ومن ثم التوجه إلى الأستاد عصراً. { وصلنا الحصاحيصا عند منتصف النهار.. وطرقنا باب منزل العمدة مزمل يعقوب فجاءتنا والدته الحاجة الفاضلة القسيمة واستقبلتنا هاشة باشة بترحاب وابتسامة تسع الكون.. سألناها قبل أن نلج صحن الدار.. مزمل موجود يا حاجة؟.. موجود بلحيل يا وليداتي كدي اتفضلوا في الأول.. هكذا أجابتنا. { فتحت لنا الحاجة المبرورة الصالون وأدارت المراوح ثم قالت لنا: كدي استريحوا واخدوا ليكم «جمة» قبّال ما يجي مزمل.. تناولنا المرطبات ثم رحنا في نومة عميقة لم نستيقظ منها إلا قبل الرابعة عصراً بقليل.. وقبل أن ننهض من أسرتنا فاجأتنا الحاجة بصينية غداء «مكربة» وبعدها الشاي ثم القهوة.. وقبل أن تنصرف فجرت لنا المفاجأة وهي تقول: معليش يا وليداتي مزمل سافر الخرطوم من البارح وأنا قلت يمكن يجي في أي لحظة وعلى العموم البيت بيتكم مزمل في واللا مافي كلو واحد. { من هذا المنبع الذي يتفجر كرماً وجوداً وحفاوة ويفيض بأروع وأطيب الخصال السودانية المتوارثة.. تشرب وارتوى فقيدنا وحبيبنا الراحل مزمل يعقوب.. فكانت داره العامرة هي الواحة التي يستظل بها من هجير الشمس كل عابر بطريق الخرطوم مدني.. وكل زائر للمدينة وكل «مقطوع راس». { ولهذا لم يكن غريباً أن تبكيه الحصاحيصا.. بكاه رجالها ونساؤها.. بكاه نيلها وشجرها.. بكته مساجدها وخلاويها.. بكته أنديتها وأستادها وساحاتها وملاعبها.. بكى الجميع بحرقة حتى احمرت العيون والتهبت ولسان حالهم يردد مع الشاعر ود بادي: أبكِ وكبي الدمعة والدمعتين يا عين.. بعد الليلة حابساها الدموع لمتين. { هاتفني العمدة قبيل عيد الأضحى وطلب مني مراجعة إحدى الصحف السياسية التي بعث لها بمادة صحفية عن مشروع إنارة مقابر الحصاحيصا الذي شرعوا في تنفيذه.. فداعبته كعادتنا دائماً وقلت له خلاص يا عمدة خليت الكورة والمناكفة وبقيت زول آخرة؟ .. ضحك العمدة ضحكته المجلجلة الشهيرة وقال لي: خلاص يا أبو صلاح كبرنا وربنا يوفقنا في أعمال الخير وقضاء حوائج الناس ونسأله تعالى حسن الخاتمة. { وعند انتكاسته المرضية الأخيرة هاتفته فأجابني بصوت خافت يبدو من خلال نبراته رهق المرض فاتفقت مع زملائي أسامة علي حسين وسمير الهادي ومحمد الحسن على زيارته بمشفاه بالعاصمة.. إلا أن مشيئة الله سبقتنا جميعاً فرحل قبل أن نلقاه. { في لحظات تشييع الجثمان كان لافتاً للنظر أن الكل يبكي ويعزون بعضهم البعض.. لأن الفقد لم يكن حصرياً على ابنه محمد ولا زوجته ندى ولا إخوانه مدثر ومحمد ومتوكل.. ولا أصدقائه أزهري علي عيسى والرشيد بدوي عبيد وصلاح أبو الجاز وأكرم أبو جريشة.. ولا أهله ومواطني الحصاحيصا.. بل كان فقداً للجميع.. لأن الفقيد كان يتمتع بعلاقات اجتماعية ورياضية حميمة مع أناس كثر بكافة ولايات البلاد وخارجها. { وحتى غريمه محمد سيد أحمد الجكومي فاضت دموعه عندما شاهدته يبكي وهو يحمل الجثمان.. ثم يواري الفقيد الثرى ثم يتوسط السرادق وهو يتقبل العزاء.. فلم أتمالك نفسي فاحتضنته وهمست في أذنه قائلاً: الرجال مواقف يا جكومي وأنت نعم الرجال. { اللهم تقبل مزمل فيمن تقبلت وأغفر له وأرحمه وأنزله فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.. وألهم آله وذويه وأصدقاءه وزملاءه الصبر وحسن العزاء.. إنّا للّه وإنّا إليه راجعون.