أحاول دائماً أن أكون في قلب المحطة الوسطى بحري.. هذا المكان بالنسبة لي «واحة خاصة».. لي هنا ذكريات وشجون.. تحس في المحطة بطعم المدينة والقرية معاً.. الخرطوم «محل» الشغل.. أما بحري «دي» حاجة ثانية! يا بنت عندك موية باردة؟.. الرجل السبعيني يسأل بائعة الشاي.. فترد عليه: والله حارة !!.. إنتِ حكايتك شنو؟.. بقيتي مستهبلة.. والله تاني الكباية ما ندفع فيها غير «500». كل النقاش والونسة في «المحطة» تدور بهذه الكيفية والبساطة. قلت لصاحب بوتيك عندك فكة خمسين؟.. قال لي بكل هدوء وثبات أوعى تكون مزورة!!.. بلعت كلماته والتي لرجل محترم مثلي تبدو أقرب للوقاحة من أي شيء آخر!! عاجلني قائلاً: لازم تشك.. في ورق كتير حايم مزور!!.. كعادة السودانيين تدخل بعض الحضور بسرد حكايات من هذا النوع أحدهم حذرني من سوق بعينه يقع غرب العاصمة.. هل وصلنا إلى هذه الدرجة من التزوير؟ الشارع يملك نصف المعلومات ولكنها تحتاج إلى نوع معين من الزئبق لغربلتها من الشوائب والزيادات والمبالغات التي تصل حد التصديق! واصلت رحلتي في البحث عن فكة لورقة الخمسين.. صاحب المطعم اعتذر لي بلباقة.. قلت له معقول ما في فكة في الدرج ده؟ ما اشتغلنا لسع.. ما زال الصبح طفلاً يحبو.. قلت له الساعة ماشة على عشرة.. ضحك الرجل في «أسى».. «زمان زي الوقت دا نكون قطعنا قدرتين فول وطاولتين عيش»!!.. الناس بقوا ما بيأكلوا ما عارفين الحاصل شنو؟.. قلت له بياكلوا في خاطرهم! ضحك صاحب المطعم على «إنتاجي الفكري»!!.. ثم ختم المداخلة باللقب الجديد الذي بت أحمله ولا أرضاه فأنا لم أصل بعد للمرحلة «الله يكون في العون يا حاج»!! قلت في سري معقول أنا حاج؟.. لعنة الله على الجرايد الخلتنا حجاج!!.. عامل الورنيش قبل أن أسأله تطوع قائلاً يا حاج دي اليوم كله ما بجيبها.. ما تصدق البقولوا ناس الورنيش مروقين. وقفت أمامي عربة فارهة من النوع الذي يتمناه لي «محمد عبدالعظيم».. لونها الأسود اللامع يتجانس مع اللبسة الأنيقة للسائقة الفاتنة التي تجلس خلف «الدركسون» تبدو كعازفة بيانو في مدخل فندق خمس نجوم. أوقفت المحرك وموسيقى هادئة تنبعث و«تدغرغ» صباحات المحطة.. نظرت بمحبة للدب الأبيض في «الطبلون» ثم رمقت بحنية وعيون «كحيلة» ميكي ماوس المتدلي كراقص «باليه» من المراية. المفاجأة أن النظرة الثالثة كانت من نصيبي.. تهيأت للحوار «الوطني» قلت في سري فلتكن «الفكة» مدخلاً للحوار الجامع.. وقبل أن أفتتح الجلسة فاجأتني فاتنة بحري قائلة: يا حاج المركز المتطور بي وين؟!!