تصور الحرارة في الخرطوم تساوي 48 ضباً.. وكيف كان ذلك؟ لم أكن أحسب أن الضب يمكن أن يكون مقياساً للحرارة حتى قرأت كتاباً للمرحوم اللواء طلعت فريد بعنوان (الليالي وفجورها) فجور جمع فجر.. (لذا لزم التنويه).. وفيه ذكر أنه مر عليهم زمن كانت الحرارة فيه (تسيح مخ الضب).. وتعجبت من ذلك الضب الذي تسيّح الحرارة مخه، وهو المعروف عنه إنه لا يبقى معرضاً نفسه للحرارة حتى تسيّح مخه، لأنه من ذوات الدم البارد وترتفع درجة حرارته مع درجة حرارة الجو، وتنخفض مع حرارة الجو، ولذلك يتقي الحر حتى لا تفوّر دمه أو تسيّح مخه، بأن يبتعد عنها ويدخل نفسه في جحر درجة حرارته مناسبة.. وهذا يصدق مع جميع ذوات الدم البارد، حيث أنهم لا يملكون أجهزة لتخفيض الحرارة، ونجد التمساح وقد فتح فمه مثل (كبوت العربية) ليمر عليه تيار من الهواء فيبرد جسمه.. فلماذا يبقى الضب في الشمس حتى يسيّح مخه؟ إلى أن قرأت مكتوب شاعر النيل حافظ بك ابراهيم إلى الشيخ محمد عبده يصف حاله، وقد نقل إلى السودان فقال: (لقد حللت السودان حلول الكليم في التابوت والمغاضب في جوف الحوت بين الضيق والشدة والوحشة والوحدة، لا بل حلول الوزير في تنور العذاب والكافر في موقف الحساب بين نارين، نار القيظ والغيظ: فناديت باسم الشيخ والقيظ جمره يذيب دماغ الضب، والعقل ذاهل فصرت كأني بين روض ومنهل تدب الصبا فيه وتشدو البلابل) أه. فأيقنت أن حر السودان معروف منذ الأزل يذيب مخ الضب والفيل معاً. وأحيلكم إلى ما ذكره عبدالله بن أبي السرح- وهو يتحدث عن الحر في السودان- عندما كان يتفاوض بشأن توقيع إتفاقية البقط Pactum مع النوبة. لقد تغير المناخ المصغر في مدينة الخرطوم بسبب الآليات المتحركة المتكدسة في شوارع الخرطوم، مع انبعاث الغازات الخانقة من جميع الأنواع من عوادم تلك الآليات (فارتفعت الحرارة وأصلو الموت شرارة... حبيبي أه) وأصبحت الدعوة الى البحث عن عاصمة قومية جديدة من مستلزمات السلامة.. فالخرطوم ضارة بالصحة.. ولذلك دفع الحر شاعرنا شمس الدين حسن الخليفة إلى كتابة معلقته الشهيرة التي نستعرضها وتقول كلماتها: حر زي دا أصلو ما معقول ... دا فخ منصوب ولا قدرة فول. ***** حر زي دا أصلو ما شفناه طلق نيران بيها خوفنا عرقنا يخر كاد يغرقنا والنفس مكتوم بالهدوم ضقنا *** الحلق ناشف والعرق شلال والمكيف داك أصلو ما شغال نشرب البارد في البطن زلزال والأكل مرفوض مافي ليهو مجال ***** والتفكير في الحر زي مشي الدفار ما حرارة الجو خلت المخ فار والأعصاب تالفة ما معاها هظار والعيون بتصب تبكي موية نار **** حر فينا نارو تتوغل تخلي الزول براهو يتقلقل رطوبة كمان زادت الطين بل والنمل في الضل قنب يتململ **** هدومك فيك لازقة زي الضب والشمس في الوش لدغة العقرب تقول تقرا مافي تركيز تب لو طريت النوم برضو تتمقلب ***** لهيب النار تجري منو تخش دينمو أعصابك يخزلك يلطش عرق هتان تخرت إنت تقش لو مرادك بس نومة تحت الدش **** هلكنا الحر بوظ الأعصاب البحوم في السوق بالنهار كضاب ولو راجل صحي عدي جنب الباب ما لهيب الحر بسيح الأخشاب *** والأنفاس حارة واقدة زناد حتى أجسامنا ماشة زايدة سواد إله الكون زيل عذابنا الزاد قبل من نلحق قوم ثمود أو عاد. إذاً لو أرادت هيئة الارصاد الجوي أن تذيع نشرة جوية فيمكنها أن تقول : الخرطوم 48 ضباً، مدني 42 ضباً، وفي الأبيض ونيالا والفاشر 36 ضباً، وفي مروي وعطبرة وبورتسودان50 ضباً، وهذا يعني إنها تلك الحرارة التي تسيّح مخ 50 ضباً عند الساعة الثانية ظهراً.. ونكون بذلك قد سبقنا جميع دول العالم بهذا المقياس الذي لا يخيب أبداً.