فاجأتنا (النيل الأزرق) بتلك الطلة المعهودة للشيخ والناس ما زالوا يتزاحمون على سرادق الوداع، فكأنه بينهم يتبسم ويطلق فتاواه (فيسهر الخلق جراها ويختصموا) عليه رحمة الله.. إنها حلقة من الارشيف لكنها باقية في الذاكرة.. سجلها التلفزيون (المنتدى الفقهي) مع الشيخ حين كان رئيسا للبرلمان.. كان محور الحلقة (التوحيد).. كررها حتى استقر في خلدي أن الحلقات قصد بها ترك رسالة للذكرى والتاريخ، فإعادة البث الآن هي حتماً رسالة.. لقد أطال التأمل والتبسم في مرجعية (العلماء ورثة الانبياء) وحتمية لا نبي بعد الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، مشيراً لتوفر أسباب العلم للكافة ومنه العلم بالدين.. كأنه يقول لا عذر لمن لا يتعلم، أو كأنها (وصيته)- أم ماذا كان يقصد؟ كأنما شاءت الصدف أن تؤكد هذه (الرسالية) في زمن التناسي فإذا بي امام كتاب عنوانه (التفسير التوحيدي) صادر عن هيئة الأعمال الفكرية عام1998 في 55 صفحة.. ربما هي ملزمة أولى من هذا التفسير الذي ابتكره الشيخ الترابي قبل عقدين من الزمان ولا أدري مآلاته، هل تكاملت حلقاته كمرجع؟.. تقول المقدمة (هذا اجتهاد في تفسير القرآن، تأسس على منهجه على التوحيد الذي يقوم به كل أمر الدين)..وتضيف( ففي أصل الفطرة الأولى لنفس الإنسان امكانات الإيمان والتوحيد والتقوى، وفي وجدانه عقيدة وحدة ملهمة ولكنها عرضة لفتنة الضلال والفجور، واحتراب الشهوات إلا إذا أسعفته بمتاب أصول الإيمان الأزلية فتطمئن نفسه فيؤمن ويتقي.. هل في الأمر رسالة؟.. المقدمة تقرر أن (الأزمة اليوم في التباعد عن التوحد بين مجتمع المسلمين والقرآن) .. وأن (الإنسان قد يكون عالماً مثقفاً بصيراً أو أمياً قل كسبه من العلم ،لكن القرآن يخاطبهم جميعاً ويوحد بعضهم الى بعض)..و(معاني القرآن لا تحاصرها ساعة النزول بل تتجلى ببيان حيثما التمست تبسط تجلياتها وتأويلاتها عبر الزمان) مصادفة وجدت نفسي أمام أثر مقروء للشيخ عليه رحمة الله ومشاهد من الارشيف، ثم وجدتني على موعد مع فيض من المصادفات حول شأن عظيم يتصل بسيرة علمائنا وجهدهم المتصل ببسط معاني القرآن الكريم وأحكامه للناس.. أن كتاباً ضخماً في ذات الموضوع يقفز بين يدي عنوانه (مفاتح فهم القرآن- تفسير لغريبه وتأويل لمشكلة) للبروفيسور أحمد علي الإمام عام 2000 قدم له بروفيسور عبدالله الطيب بقوله للمؤلف(لم تترك شيئاً غير مفصل المعني، ومع هذا قد أحسنت إذ تشير الى بعض وجوه الخلاف، فهذا ينفي عن هذا العمل القيم كل تقصير).. الكتاب في 1108 صفحة، أراده مؤلفه (صلة بمصدر الخلود) من خلال الاتصال بالقرآن الكريم والاستمساك بالعروة الوثقى واهتداء للصراط المستقيم، وتحصيل للعلم النافع والإنس المقيم الذي يستأنس به المؤمنون وتطمئن به قلوبهم وتنشرح به صدورهم. وتتوارد الخواطر، فإذا بهدية تصلني من الدكتور عبد الحي يوسف هي كتاب فريد في ذات السياق بعنوان (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) تأليف العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، يقدم له الشيخ محمد بن صالح العثيمين بقوله (تجنب ذكر الخلاف إلا أن يكون خلافاً قوياً تدعو الحاجة الى ذكره، وهذه ميزة مهمة بالنسبة للقارىء حتى يثبت فهمه على شيء واحد.. أنه كتاب تفسير وتربية على الأخلاق الفاضلة).. الكتاب حفل من الهامات التفسير وضوابطه المنهجية ذاتها التي توخاهاعلماء بلادنا، ووجدت عليه إهداء قرنه بالدعاء لشخصي (رجاء أن ينفعه الله به ويرزقه إخلاصاً وعلماً) فقلت (آمين).. الكتاب فخم وصلني منذ حين، وما أدركت فضله إلا حين صنفته مع ما ذكرت من كتب في ذات السياق- رحم الله حداتها ممن رحلوا وجزا شيخ عبد الحي خيراً وأفاض عليه من نعمائه- فلقد من الله عليه بنعم البلاغ المبين عبر الأثير والأثر الباقي، وكم لمت نفسي لتخلفها عن الإسهام في وسائطهم الطيبات من قبيل ما هو(علم ينتفع به) مع ما يعلم من حيلتي في هذا المجال. أعود لذكرى من فقدنا من علماء بلادنا.. ذهبوا وقد تركوا أثراً باقياً يحسه الناس وبه يشهدون لهم، يسري أجره عليهم وفضله بين الناس فكأنهم لم يذهبوا، أكرمهم الله فما أشق ما احتملوا.. ولقد كنت قريباً من بيئة تأليف كتاب (مفاتح) بحكم أنه شكل مادة لبرنامج تلفزيوني سعدت بالإشراف عليه، فشعرت أن مؤلفه يسابق الزمن ليترك أثراً، ربما كانت في باله تجربة بروفيسور عبد الله الطيب عليه رحمة الله (دراسات في القرآن الكريم).. إن العلم يبقي ومعه صاحبه يمسي ويصبح بين الناس.. هذا هو العزاء في من فقدنا وتلك هي السلوي.. التوحيد والعلم صفوة القول، والعلامة السعدي في كتابه المشار اليه يفسر الآية الكريمة (فاعلم أنه لا إله إلا الله) فيقول(إن هذا العلم الذي أمر الله به هو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد كائناً من كان). وهكذا تمضي هذه الجهود الفكرية من أهل العلم تلح على طلب العلم معززة لروح التوحيد واطمئنان القلوب ودفء التواصل ..بروفيسور أحمد علي الإمام لعلمه بتواصلي ومحبتي للبروفيسور الحبر يوسف نور الدائم، كلفني أن أحمل له مسودة كتابة للمراجعة كمتخصص في دراسات القرآن الكريم.. كان يعاملني بلطف معهود فيه يبسطه للكافة الى أن ذهب.. يذهب العلماء وتبقى سيرتهم وما ينفع الناس.. هناك شدائد وأحزان فلنرجع لله تعالى ونطلب العلم ونتداوى بالعمل الصالح.. هاهنا السلوى.