إن كرامة الشيخ محمد الهميم ولد عبد الصادق، في عطب القاضي، ب (فسخ جلده)، إلى جانب موضوعها الإيماني، تؤخذ كأثر تاريخي يكشف الكثير من ملابسات الصراع بين طرفي النخبة-الصوفية والفقهاء- في عهد دولة الفونج.. حيث تجد الفقيه، رغم ما لديه من نصوص يستند عليها في الإدانة والمحاسبة، تجده يهرول وراء الصوفي، والصوفي الهميم، فوق جواده لا يكاد يقف ليجعل الفقيه نداً له..! في ذلك يقول ود ضيف الله (وإن الشيخ جاء لصلاة الجمعة في أربجي فلما خرج من الجامع ركب على جواده فمسك القاضي عنان الفرس).. كانت قاعة المحكمة ظهر حصان يمتطيه المتهم لكونه أكبر من أن يقف أمام محكمة فقهية أو سلطانية، يتصدرها قاضٍ مهووس بتفصيل النصوص على الظواهر..! ورغم ذلك، يثير استجواب القاضي دشين، غضب الشيخ الهميم وهو على حصانه، فيلعنه، ويقول فيه رجزاً يدين العقل الفقهي في حرفيته وانغلاقه.. قال الشيخ الهميم: (فإن كنت يا قاضي قرأت مذهباً- فلم تدر يا قاضي رموز مذاهبنا، فمذهبكم نُصلِح به بعض ديننا- ومذهبُنا يعجم عليكم إذا قلنا.. قطعنا البحار الزّاخِرات وراءنا فلم يدرِ الفقهاء أين توجّهنا)..! فإذا كان القاضي لا يدري رموز مذهب التصوف، فما الذي يمنع أن يكون الجمع بين الأختين، في معنى ( فمذهبكم نصلح به بعض ديننا)..؟ أي أن الولي حين يجمع بين (الأُختين)- الفقه والتصوف- إذ ليس ذاك الجمع، يكون بالضرورة، في معنى افتراش شقيقتين..! ولكأن القاضي دشين، في خضم الصراع بين الفقه والتصوف، قد جعل من زيجات الشيخ الهميم- التي أشرنا اليها فيها سبق- سبباً لإدانته إجتماعياً وفقهياً أمام الناس عقب صلاة الجمعة في مدينة اربجي، الأمر الذي دفع الشيخ الهميم إلى عطبه اعتباراً.. وطالما أن الفقه هو(بعض دين) عند أولياء عهد السلطنة الزرقاء، فهذا يعني أن مبادئ الصوفية المعدلة التي أطلقها الإمام الغزالي قد استقرت نوعاً ما في ذهن النخبة آنذاك، الأمر الذي أثار تعجب الشيخ الهميم، حين وقف أمامه قاضٍ نصّبَ نفسه حاكماً، وهو الغافل عن بديهيات الأحوال الصوفية..! وبعمق المفارقة يأتي خرق العادة، ولا غرابة.. ليس غريباً أن ينسلخ جلد القاضي دشين كما يعطي ظاهر الكرامة.. والذين يمكن أن يتشككوا في الإنسلاخ العضوي لجسد بفعل دعوة من صاحب الألق الروحي، فليكن ذلك الإنسلاخ في معنى التخلي عن الإرتهان إلى النص الفقهي، بمعنى أن القاضي دشين قد خلع عن نفسه رداء التصحيف منسلخاً عن جلده الفقهي، أى ارتقى عن علم الظاهر، الى علم الباطن، وتخلى عن حرفيته ملتزماً بجواهر المعاني التي يحملها النص الأصل.. القرآن.. وهذا المعنى يُشار إليه في ثنايا الكرامة ، بأن دشين فقيه من نوع خاص، يؤمن بالحضرة النبوية، ولم يجعله النص في حرز - لم يحجبه- عن أن يكرف عبق الصوفية ومكاشفاتهم،، فهو الذي خاطب مشايخ الطريق الفقهي وهم داخل قبورهم.. أنظر، الطبقات، ص 32.. (القبر) هنا، يمكن تأويله في معنى غيبة العقل في الركون إلى التصاحيف.. مثل هذا التأويل يقرِّب إلى الأذهان ما يستعصى عليها من تقبُّل وتذوُّق الوقائع الروحية في كل الاحوال، وحتى في حالة العطب.. ويُلاحظ أن نص الكرامة، يحتوي حبّاً متبادَلاً بين الفريقين المتصارعين، إذ لا يخفي القاضى دشين، حبّه لولي صوفي، يتساوى عنده القبر وخباء العروس.. فالشيخ الهميم منقول عنه قوله ساعة دخل على أنثاه: (أمسيت ضيف الله في قبر منزلي-وعلى الكريم كرامة الضيفان)..!