نحن بصدد المناظرة الشهيرة التي جرت في عهد الفونج، داخل مجلس الشيخ عجيب المانجلك، بين الشيخ إدريس ود الأرباب والشريف عبد الوهاب، وقد كان موضوعها " التنباك أهو حلال أم حرام؟".. كان الشيخ إدريس ممثلاً للصوفية، يقابله ممثل أهل الفقه، الشريف عبد الوهاب.. وقد وصلنا في السرد عبر هذه الزاوية، الى أن ممثل الفقهاء أباح شربه استناداً على نص مالكي، بينما حرّمه الشيخ ادريس استناداً على ذات المذهب.. ولما كانت النصوص تأخذ مجراها في كل زمان ومكان، ولما كانت شروح فقهائها "حمّالة أوجه"، فقد خرج الشيخ إدريس بالمناظرة، من فضاء النص إلى سعة علم الذوق، فقال :"إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره في الحضرة النبوية، بحرمة التنباك".. وعضّد ود الأرباب قوله بإن تلك الحضرة شاهدها الشيخ الهميم، والقاضي دشين، والشيخ حسن ود حسونة... والحضرة هي لقاء روحي يجمع السلف والأحياء.. هى إشراق زمنى يجمع الماضي والحاضر والمستقبل، وتتسع لكل ألوان الطيف الديني مثل محمد الهميم ولد عبد الصادق صاحب بيعة الكف، والقاضي دشين الفقيه، وحسن ود حسونة الذي أوتى الفتح كفاحاً.. وقد قال السيوطي عن الحضرة :"إن النفوس القدسية اذا تجردت عن العلائق البدنية اتصلت بالملأ الأعلى، ولم يبق لها حجاب، فترى وتسمع الكل كالمشاهدة".. أنظر: يوسف السيد هاشم الرفاعي، أدلة أهل السنة والجماعة أو الرد المحكم المنيع على منكرات وشبهات ابن منيع، ص91 .. تلك الحضرة التى تحدّث عنها الشيخ إدريس ود الأرباب، لم تُعقد لاقناع الأحياء بحرمة تعاطي التنباك، وإنما هي أيضاً لتطهير الموتى ممن كانوا يتعاطونه كالقاضي دشين..! ففي الرواية التي سردها ود ضيف الله، أن الشيخ العركي خاطب القاضي دشين داخل قبره، باستجواب يكفي لتأكيد أن دشين الفقيه قاضي العدالة تلفح رداء التصوف في البرزخ بعد أن كان "يناقر" معتنقيه في الدنيا..! وقد ذهب ود ضيف الله الى أبعد من ذلك، حينما أكد في مصنّفه، أن القاضي دشين، طلب من قبره شفاعة الشيخ إدريس ود الأرباب عندما ساءله العركي عند قبره .."وسأله في القبر فقال: التنباك حرام كلّم الشيخ ادريس يسأل لي المغفرة بسبب شربي له"..أنظر الطبقات ، ص 53... هكذا ابتلعت أمواج التصوف العاتية ممثل الفقهاء، لأن مشايخه القُدامى قد تصوفوا، وأعلنوا ولاءهم للصوفية من داخل قبورهم..! وفي مثل هذا المناخ، لا يمكن أن يدار الصراع بين الغرماء طرفي النخبة إلا بالترميز، إذ اتخذ كليهما من التنباك، مطية للتنافس في بلاط السلطان.. وبهذا أيضاً أصبح التنباك، قضية سياسية في جوهرها، بينما مظهرها عقدي ديني.. ويتفاعل الموقف حول التحريم والتحليل للتنباك، وينتقل صراع النخبة إلى مصر، التي وفدت منها، معارف القوم والفقهاء على حد سواء.. ينقل ود ضيف الله، نبأ اصطفاف الناس في صحن الأزهر، لمراقبة معركة حية بين أهل الفقه والتصوف، فجرتها رسالة من الشيخ إدريس للشيخ الأجهوري، أشهر أئمة المالكية في الأزهر حينها.. قرأ الأجهوري رسالة الشيخ ادريس، التي أوصلها له تلميذه "أبو عقرب".. قرأ الأجهوري الرسالة في مجلسه.." ولما وصل إلى قول الشيخ إدريس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال التنباك حرام".. رمى بالمكتوب في وجه حاملها.. كأنه يستكثر وقوع "الفيض" لشيخ من "بر السودان" يكون شهيداً لحضرة إمامها النبي صلى الله عليه وسلم..! قال الشيخ الأجهوري (لأبو عقرب) تلميذ ود الأرباب: " يا بري شيخك هذا صحابي؟".. وأضمرها أبو عقرب في نفسه، راجياً أن "يتبين" الشيخ إدريس في تلك الديار البعيدة، بكرامة تؤكد فتواه.. نواصل..