لا غرابة في خرق العادة، إلا في بعض التفاصيل.. أهل الفقه لا ينكرون خرق العادة إجمالاً، إنّما يقدحون في بعض الأقوال والأحوال التي يأتي بها (الأولياء).. وفي ما نحن بصدده، من تفكيك لبعض حوادث عصر الفونج ، نجد أن انسلاخ جلد القاضي دشين، كما يعطي ظاهر الكرامة المُشار إليها في الطبقات، لم يكن حدثاً غريباً أو مستهجناً لدى الغالبية العظمى من السودانيين.. فالذين قد يتشككون في الإنسلاخ العضوي لجسد، يمكنهم فهم الإنسلاخ، في معنى التخلي عن الإرتهان إلى النصوص الفقهية.. بمعنى أن القاضي دشين-كما يشير نص الكرتمة- قد خلع رداءه، أو جلده الفقهي- ظاهره- فبرز جوهره.. والجوهر هو الروح بطبيعة الحال.. .. هذا المعنى يشار إليه في ثنايا الكرامة، بأن القاضي دشين، كان فقيهاً من طراز فريد، فهو يؤمن بالحضرات، وبكثير ممّا يتوشّح به الصوفية.. مشهداً بهذا التعقيد، ما كان للراوي- ود ضيف الله- إلا أن ينقله عبر الترميز بأشياء عزيزة لها وقعها المؤثر بين كافة أطراف النسيج، فكان أن اتّخذ المرأة، أو أن ثقافة الشفاهة التي دوّنها قد استحضرتها في الرواية، باعتبارها ذلك الكائن، الذي تحيط به هالة من المشاعر المتلاوحة بين الشيء ونقيضه.. وكذلك اتّخذ (التنباك) كمحمول مادي يعبر عما هو متاح من مُتعة في ذاك الزمان.. وكما هو واضح في نصوص الكرامة، فقد تداخلت السياسة والقداسة في الميدان الآيديولوجي، واختلط الديني بالدنيوي.. هذه الحقيقة قررها ضمنياً ود ضيف الله في ترجماته عن الحكام وأرباب السلطة، حيث جاء ذكرهم في ثنايا سرده لمناقب الأولياء والصالحين وأتباعهم.. كان الأولياء والسلاطين عند ود ضيف الله (طبقة واحدة) لا تكاد تنفصم، لأن الصوفي، ولياً كان أم حواراً، تجده منغمساً في الحياة الإجتماعية والسياسية، رغم ما عليه من أغلفة الزهد والإنزواء.. نأخذ تسمية الطبقة بحذر نظراً لمدلولها الآيديولوجي المعروف، (مع الأخذ في الاعتبار أن قوانين المادية التاريخية تعمل بشكل مختلف في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، لأن حقل الصعيد الاقتصادي فيها شفاف).. أنظر: سمير أمين، قانون القيمة والمادية التاريخية، ص94.. والصوفي في بعده أو قربه من السلطة، يتميّز عن رصيفه الفقيه بحضوره الاجتماعي ووهجه الروحي، دون قولبة أو قطيعة تجعل أياً منهما، منفطماً عن المشاركة في الفعل السياسي.. لقد اعتلى بعض الأولياء والفقهاء سُدة السلطة في عهد سلطنة الفونج، وبعضهم ترفع عن المشاركة.. من ذلك المقام- المشاركة في الحكم- يمكن تقسيم الصوفية في علاقتهم بالسلطة، إلى ثلاث فئات، كلها تشارك بقدرٍ من السياسة.. أول تلك الفئات يمكن وصفهم بأنهم (أولياء فوق مقام الحاكم)، بسبب ما يحظون به من بعد روحي هيأ لهم مكانة اجتماعية سامية، يليهم في تلك المكانة أهل الفقه.. كان هؤلاء هم طرفي النخبة، وهم في الغالب ضمن حاشية السلطان،، وإن بعُدت مسايدهم عن مجلسه، وإن بدا الشقاق بينهم كممثلين لعلمي الظاهر والباطن،، فإن ما يميّز المجتمع، منذ عهد قديم هو تساكن الجنوح العقدي لدى السودانيين، لأن العلاقة بين المكونات الثقافية تجذّرت على قاعدة التصاهر والتمازج تحت رعاية أرباب التصوف.. هؤلاء الأولياء الذين ترتفع مقاماتهم فوق الحاكم، هم ثلة من أهل الوهج الروحي، وقد تأهلوا بذلك الكسب الى مكانة اجتماعية، فأصبح لهم مؤيدون وأتباع يعتقدون فيهم، فأصبح لهم بالتالي، سطوة على الحكام، لأنهم يتمتعون بمهارات عديدة، ويتسلحون بمعرفة ليست لغيرهم، ولهم حصانة قدسية في نظر الناس،، بالتالي لا تتقيد أقوالهم وأفعالهم بمحاذير السلطة وقيود النص والقانون، انطلاقاً من مفهوم، أن ليس لهؤلاء سوى سلطان واحد، هو الله..