انتهى الآن كل شيء، والكل يتحسس نصيبه ومالنا سوى الدروس والعبر، وما أحوجنا .. كنا قد استسلمنا لعزلة المساء وجلسنا نغالب الغربة بالريموت كنترول، فإذا الأمر فوق ما اشتهينا .. انقلاب على الهواء مباشرة!! هكذا كانت تتلاحق الأحداث في غرفة عبر الشاشات ثم تتطور بلاهوادة.. كل الاحتمالات والسناريوهات تتشكل طازجة حول مصير مجهول.. أفعال وردود أفعال بما لايخطر على بال، وزاد الأمر تشويقاً دخولنا كمتابعين في سباق توقع يمكن أن يحدث بعد قليل. )انقلاب فاشل).. كان هذا أول رد فعل داخل غرفتنا التي أصبحت جزءاً من العالم، قالها متخصص في تكنلوجيا الاتصال منصرفاً وهو يشير الى صورة (الرئيس المخلوع) الجديد على الموبايل يخاطب شعبه للخروج الى الشارع.. وبقينا نتابع الأحداث وهي تتوالى صاخبة بين الظنون واليقين والشماتة حتى تكتشف الحقائق مع آذان الفجر في استانبول.. تركيا تعرضت لانقلاب عسكري حشدت له كل أسلحة الجيش لكنها حسمت أمرها بسلاحين (مدنيين) لا أكثر - الإعلام وإرادة الشعب .. فالرئيس منتخب وبمقدوره أن يظهر طليقاً على شاشات التواصل الاجتماعي ويخاطب الناس ليعرفوا أنه (موجود (فتنقلب الموازين والعالم يتفرج بانتظار أن يقرر مع من يقف، مع الانقلاب أم مع الشرعية.. المصالح تتحكم بصورة مكشوفة.. فالبعض كان مستعداً للوقوف مع الانقلاب متى نجح ولكنه سارع بتأييد الشرعية حيث تأكد أنه فشل.. محاولة الانقلاب جرت في تركيا لكن العالم ظل مشغولاً بها وبنتائجها، واليوم الرئيس التركي في روسيا.. تركيا دولة مهمة للشرق والغرب، ولذلك مايحدث فيها مهم لغيرها .. الأهم فيما جرى، فيما نرى، هو (كيفية إدارة) هذا الصراع المفاجئ .. هذا ماجعل الأمر خاضعاً للتحليل والتبصر والاعتبار، فيما نشاهد على الشاشات حتى اليوم.. هناك مايهمنا على البعد أيضاً .. فما يحدث حولنا لا يخص الآخرين وحدهم.. يخصنا أيضاً مادمنا نعيش في (زمن واحد) هذه أوصافه تتحكم فيها الأحداث والمعلومات والسيناريوهات للخروج بأقل الخسائر وبلسان حال يقول (كلما لا يقتلني فهو يقويني) .. الآن العالم ملئ بالأحداث.. علينا أن نتأكد من أن مايحدث لغيرنا لابد أنه يهمنا بشكل أو بآخر مادمنا في عالم واحد أنفاسه تحبسها نزاعات التغيير والعدالة والمحافظة علي الذات، في مواجهة الضغوط والتهميش وتجاهل وجود الآخر. هواجس التغيير التي سيطرت على تركيا نرى مثلها وأعنف منها تتعرض له أوروبا وأمريكاواليابان في هذه الآونة.. إن هواجس التغيير في أنظمة الحكم تسيطرعلى العالم، التغيير منتظر بشغف عله يكون الى الأحسن.. الزعيمة الألمانية انضمت اليها بنوازع التغيير زعيمة من حزب منتخب في بريطانيا وفي أمريكا.. التغيير قادم بامرأة للذين يريدونها الأولى في تاريخ أمريكا وامرأة رابعة في اليابان (بدرجة عمدة) لأول مرة.. هذا مؤشر لنوع من التغيير القادم الذي لا يكترث بالعواقب مادام تغييراً على قواعد متفق عليها . تجربة تركيا محورها لا مرحبا بتغيير يأتي على غير قواعد متفق عليها، وهذا واضح من تلاقي أحزاب الحكومة والمعارضة هكذا في مواجهة الانقلاب... العالم ينسجم مع)القواعد (وأساسها المعلومات، الشفافية، العدالة، المشاركة.. وهذه الرباعية هي قوام إدارة الأزمات وفق بدائل محكمة كما رأينا على الطريقة التركية التي أثارت اهتمام العالم، وبات الترقب يعول على اخضاع تبعات الانقلاب على ذات القواعد، وذلك ضمن نظرة العالم لدور تركيا كبؤرة للنزاع الدائر في المنطقة، وبما ينسجم مع نجاحاتها التي أظهرتها في مجال الاقتصاد، وهي منطقة تتنازعها مهددات الخرائط الجديدة ونوازع الهيمنة الشرسة على الثروات والهويات، ومعلوم ما لتركيا من دور في صناعة التاريخ والامجاد.. لا شيء كان يبدو أنه سيشل تفكير الدولة التركية ويشغلها عن تدبر (كيفية إدارة الأزمات) عبر بدائل مستحيلة .. هذا مايثير اهتمام المتابع لتجربة تركيا في معالجة انقلابها على الهواء تحت بصر وسمع العالم .. هل من عبرة وهل من دروس مستفادة من هذه التجربة – تجربة إدارة الأزمات وفقاً لسناريوهات وراءها عقول مدبرة تطوع المستحيل من البدائل الذكية والحلول الناجعة!! إدارة الأزمات وإجادة استخدام السناريوهات والبدائل ليست حكراً على زمن الانقلابات.. إن إدارة الحياة اليومية في هذا الزمن الصعب في حاجة الى ذلك، في حاجة الى (عقلية) تدرك كيف تدير شأنها عند الشدائد وربما نلاحظ أن العالم كله يسارع ليستعصم بتقنيات العصر – التكنلوجيا، التخطيط الاستراتيجي، السناريوهات الذكية التي تستدعي مواجهة المستقبل بأسلحته، لا بأسلحة الماضي . كأنما في الأفق صيحة لا تبقي ولا تذر، تنادي الدولة وكل أسرة، وكل مدير ووزير وراع مسؤول عن رعيته ليدرك الآن قبل الغد أن الزمن يتغير بسرعة والأحداث تتلاحقه والتنافس على أشده للبقاء والتميز والمواكبة، فهل تستجيب وسائلنا ومناهجنا لهذه الصيحة!! (علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل) نادى بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والمعنى هو الأخذ بأسلحة المستقبل.. فمن غيرنا جدير بأن ينال مكرمة أن نتعلم الآن وقبل فوات الاوان من الحكمة الراشدة ومن تجاربنا وتجارب غيرنا.. علينا أن ندرك ماتعرضت له مناهجنا من تخلف وقعود عن المواكبة، خاصة في مجال التعليم والإعلام والتربية والتخطيط الاستراتيجي فنعلم أولادنا في المدارس والجامعات سر البدائل ودهاء الخطط والسناريوهات التي تحتاط لمشاكل المستقبل، قبل أن تداهمنا فتشل تفكيرنا. هل يستجيب لهذه التجارب والعبر من استأمنتهم البلاد على مستقبلها؟ وهلا راجعنا مناهجنا التعليمية بما يواكب العصر ويسعف الحال بعقليات إدارية واقتصادية تبادر بحلول ناجعة لاتهزمها تصاريف السياسة؟ علينا أن نعي تماماً إننا جزء من عالم متغير أزماته لا تستثنينا فضلاً عن مايلينا من معضلات من صنع أيدينا ظللنا نوجهها بحلول عادية على طريقة (عدي من وشي) نتائجها متراجعة تزيد الناس حيرة، مثال لذلك هذه السيول التي الفناها والفتنا، نواجهها كل مرة بنفس (الكلام) تماماً كما نواجه سطوة الدولار بينما الحلول الجذرية معروفة .. لاعذر، ففرص مواجهة التحديات متاحة لكل من أراد وله (إرادة) -المعلومات، التخطيط ، التكنلوجيا والشفافية – اي القيم وتأتي أولاً، لا ريب وذلك لضمان المحافظة على العهود والحقوق وعلى المصداقية . وللحكم والدروس بقية: أهداني دبلوماسي عراقي أثناء كتابة هذا المقال كتاباً عن الأزمات والمواقف الحرجة التي تتعرض لها العلاقات بين الدول، وكشف عن تجارب مثيرة ومفيدة أهداها لغيره، وانتهي للقول.. (والسعيد من اتعظ بغيره) قلت لنفسي : في الأمر مايسر إذن متى راجعنا أنفسنا بشجاعة وحمدنا الله .