من موقع غربتي الجزئية هذه تابعت بحساسية مفرطة وشغف وإشفاق ما يجري في السودان وكأني مغترب امتد به الزمن واستبدت به الأشواق وهواجس الغيرة على الوطن.. هناك أحداث مهمة أو تبدو كذلك لمجرد أنك بعيد عن الوطن ويزعجك أن ترى الأشياء تجري في بلادك بغير ما اعتدت أن تراه من حسن ترتيب لكل شيء في (بلاد الغربة).. ألم يكن السودانيون يوماً مرجعاً لدول في تأسيس مرافقها التي تتباهى بها ؟! حفظ الله بلادنا.. بهذا الدعاء وبدوافع الإشفاق على النتائج تلقاء (طريقتنا) في إدارة الطوارئ، يتابع السودانيون خارج بلادهم أطوار الأمطار والسيول وغضبة النهر (المعتادة) ولسان الحال يقول أما لهذا النيل من حدود؟!.. أما له من الحسنات ما يهزم هذه المخاطر السنوية المخيفة ؟! سمعت مسؤولاً يقف على حافة النيل والانهيار وشيك يقول إنهم سيطرحون (خطة إستراتيجية) لمعالجة عدوان النهر نهائياً.. ليتهم جعلوها نهاية تبشير باستثمارعظمة هذا النهر وهذه الكمية الهائلة من المياه العذبة وهذه المناظر الخلابة التي قد تكون محل استحسان عند غير السودانيين. عجبت وأنا أتابع (أحداث اليوم) بالخرطوم لتواتر عجيب بين حدثين، انعقاد ورشة الإعلام والإرهاب وتدشين قناة سودانية.. أهي مجرد مصادفة جميلة أم هو ترتيب رائع مما يشتهيه المرء لبلاده وهو في الغربة.. ففي الأمر صلة إذا أردنا أن نقرأ هذا الذي يجري في الخرطوم في أسبوع واحد من قبيل (أن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام )!.. لنقل إن ذلك من باب حسن الترتيب، ولنقل هذه (مظنة خير) أخرى تجاه قناة سودانية تضرب المثل بعمل إعلامي بمواصفات لا تخيب الظن ولا تستجيب للأهواء في سماء مفتوح انحدرت فيه قنوات بدأت إعلامية تم توظيفها لتؤجج الخلاف وتتاجر بالمواقف (وتقسم المقسم).. هل كان الإعلام العربي إياه في منعزل عن نوايا سوء التوظيف؟.. هنالك كم هائل من القنوات أطلت على الساحة العربية منذ بداية هذا القرن.. فهل شكلت إضافة لمضامين السلام والوحدة والتحرر الوطني؟.. دعنا من ذلك، لنقل الآن أطلت قناة جديدة علها في هذا الجحيم العربي تبشر بأن تكون (برداً وسلاماً)على أمة سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصادق الأمين أتم الصلاة والتسليم، أمة معلمة تستدعي استنهاض الهمم لانتشالها مما اعتراها من دسائس العصر التي تصاعدت بليل ولسان حالها: (كلما أنبت الزمان قناة.. ركب المرء في القناة سنانا).. وكان ما كان مما تفشى في الناس من سوء خلق ينسف المكارم الخالدة ويزعزع نوازع الهوية في دماء الأجيال. دعك من ذلك، الآن قناة جديدة تطل في وقت عز فيه اقتران القول بالعمل.. فشكراً لهم إنهم قالوا ففعلوا، ثم إنها بشرت بأن تتجاوز العقبة الكؤود التي تهدد الإعلام السوداني ألا وهو (التمويل).. وليس أخيراً إنها وعدت بأن تأتي بجديد، فكم أقعد إعلامنا (التقليد).. معلوم أنه كلما نشأت قناة تكاثرت حولها الرماح – من أين لها التمويل؟.. وكان العهد بالمال أنه لدى الحكومة وحدها.. الآن القطاع الخاص يقول هأنذا.. إن (التمويل) ضمانة أساسية لكنه ليس كل شيء.. علامات التمويل الكافي ظاهرة عبر مشاهد التحضير والحضور، لكن الجوانب الأخرى الحتمية لاستكمال مقومات النجاح تظهرها النتائج على الشاشة لاحقاً والأمل أن لا نتسرع في الحكم على نجابة المولود.. كما أنه مرجو من القناة ألا تتسرع في تفسير ما يقال على أنه (تشكيك) في القدرة على الاستمرارية فإن أي قناة يصاحب ميلادها ذخات من مشاعر الإعجاب المبالغ فيه والظنون الجائرة.. فلترجح (حسن الظن) فيما يوجه لها من نقد.. أن تقبل النقد بعد توفر (النقد) قد يبلغ مقام من (أهدى إليّ أخطائي).. فلسنا وحدنا في هذا العالم المفتوح وهناك من الخبراء من ينصحون باعتماد نظام (Focus Group) لتقييم البرامج وقوامه فريق متجانس متجرد من أهل الخبرة ولعل القناة تأخذ به بعد شهرها الأول، هذا فضلاً عن استطلاع رأي الجمهور (صاحب العمل) بلغة القطاع الخاص. واضح تركيز القناة على الشباب، لا يبدو واضحاً توفر عناصر الخبرة وتواصل الأجيال مما يغني عن الارتباك الذي قد يصاحب البداية فتتجنب الوقوع فيما وقع فيه الآخرون من أخطاء لا يقع فيها إلا من يعتبرون أنفسهم الرواد وهم يبدأون لتوهم..الريادة متاحة، شرطها الدخول في التجربة والقدرة على المنافسة.. أمام القناة فرصة للريادة لو أنها أدركت فضيلة (الإعلام الهادف) بلا إثارة.. لا داعي للتعامل مع ما يقال على أنه (اتهامات) كما يبدو في مؤتمرهم الصحفي من ردود فعل حول (تلمس الخطى على الهواء) والانغلاق في أشكال مجربة والانحصار في إطار تخصص جاد بينما الجمهور جبل على حب التنوع.. والسؤال المهم من هم جمهور القناة؟!.. هل من سبيل لاجتذابهم من حضن قنواتهم بينما تتصيدهم وسائل التواصل الاجتماعي بما امتلكت من إغراءات الشفافية والفورية؟ وللخواطر بقية: تقديراً لدعوة وصلتني للمشاركة في الملتقى العربي لمكافحة الإرهاب حرصت على متابعة فعالياته من على البعد.. الفكرة مهمة ما دامت متصلة بحماية الشباب من الغلو والعنف والكراهية وتستحق أن تبقى التوصيات قيد العمل الملموس المواكب لجهود إطفاء نيران هذه الحرب العالمية وثيقة الصلة بالإعلام المتشدد.. الملتقى أوصى بإنشاء مفوضية لضبط الخطاب الإعلامي ولكن أين تلك المفوضية العملاقة (اتحاد إذاعات الدول العربية)؟ ما سر هذا الظلام الذي ضيع ملامح من حضروا افتتاح القناة الجديدة، ربما كانت (رؤية إخراجية) ضمن ابتكارات كادرها الفني لكن مشهد (نوعية) الحضور يكشف عن أهمية الحدث إلا إذا كان الأمر مهماً في نظر القائمين عليه.. فلا داعي لغيرهم، جاءوا أو غابوا أو غيِّبوا. ممثل اتحاد أصحاب العمل ترك كلمته المكتوبة وارتجل أخرى سلسة فرائحية أظهرت مساندة القطاع الخاص لفكرة القناة وكشفت عن إشفاق على صاحبها من العواقب بلغة الأرباح والخسائر، فالاستثمار في الإعلام لم يجرب بعد. الأستاذ عبد الرحيم حمدي كان قد حاول الدخول في تجربة القناة مع القطاع الخاص كتوأمة للإذاعة الاقتصادية التي رسخت أقدامها الآن.. ولكن.. وزير الدولة للإعلام الأستاذ ياسر يوسف تحدث بلهجة (رجل الدولة) – ذهن مرتب وحجج لغتها الأرقام.. عدد الإذاعات والقنوات الفضائية السودانية اليوم جدير بالتأمل، حسناً ما هو المردود. تفقدت بين الحضور أسماء إعلامية شهيرة، منها الأستاذ عبد العظيم عوض الأمين العام لمجلس الصحافة والمطبوعات.. كانت له ورقة في ورشة فبادر مقدم البرنامج واستأذننا في أن يحدثنا عن (والد عبد العظيم) فبالغ في الإعجاب به وفهمنا أنه وراء تميز (عبد العظيم).. تذكرت هذه (اللفتة) وأنا أتابع لمسات اثنين من بناة هذه القناة فرأيت أن الفضل يرجع لإرث الوالد وبصماته.. الطاهر (حسن أحمد التوم) ولؤي (بابكر صديق) وراءهما أسماء في حياتنا جديرة بالوفاء.. رحم الله (حسن) فما أروع بصماته في مجال الصحافة والإعلام.. وتحياتي إلى (بابكر) الذي يفيض إبداعاً منذ عصر (محراب الآداب والفنون) بتلفزيون ود مدني - من قال إن الإبداع بلا جذور؟.. وإن هؤلاء الشباب تنقصهم الخبرة ؟! أوليس ابن الوز عوام ما يزال؟!