غداة عودة د. غازي صلاح الدين مسؤول ملف دارفور من الدوحة بعد جولة مشاورات بين الحكومة والوسطاء، اجتمعت اللجنة العليا لسلام دارفور وفاجأت الجميع بقرار سياسي قضى بزيادة عدد ولايات دارفور إلى خمس ولايات، واللجنة التي اتخذت القرار رئيسها المشير عمر البشير وسيذهب القرار «حزبياً» للمكتب القيادي للمؤتمر برئاسة المشير البشير لإجازته ومن ثم يتجه لمجلس الوزراء برئاسة المشير البشير لإجازته، ثم يعبر القرار جسر النيل الأبيض (القديم) نحو البرلمان لإضفاء المشروعية الدستورية عليه وتوجيه الرئيس لإعلان التدابير الإجرائية لقيام ولايتين، كل تلك (التمريرات) من جهة (الإجراء).. أما المناخ الذي اتخذ فيه القرار فمن المعلوم فشل منبر الدوحة حتى اليوم في إحراز تقدم في التفاوض مع (الحركة السياسية) الأقرب للحكومة من غيرها، والتي يقودها د. التجاني سيسي بعد رفع سقف مطالبها لنائب رئيس من دارفور وإقليم واحد، بينما المسافة التي تفصل بين الحكومة وحركة العدل والمساواة بعيدة جداً.. وقد اختارت حركة العدل الموت في خندق العقيد (معمر القذافي) ورهنت مستقبلها بالنظام الليبي الذي يترنح دون أن يسقط منذ أسابيع، وتنتظر الحكومة هبة السماء بالقضاء على د. خليل وحركته ودفنها في مقبرة واحدة مع (القذافي)، مع الأخذ في الاعتبار دروس الأمس حينما سقط منقستو هيلا مريام في أثيوبيا وأيقن البعض أن الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق لقيت حتفها هناك ولكن سقوط منقستو فتح لقرنق أبواب كمبالا ونيروبي وخزائن الغرب وسلاح أمريكا بعد اندحار حقبة الاشتراكية.. فهل سقوط القذافي بالضرورة سيسقط معه د. خليل وحركة العدل؟.. أم القذافي نفسه سيكتب له عمر جديد وينهض من تحت وقع السيوف.. في هذا المناخ (السائل) اتخذت الحكومة قراراً مؤجلاً منذ عامين بزيادة عدد ولايات دارفور إلى خمس ولايات.. وبدا القرار في مظهره كردة فعل غاضبة من الحكومة لمطالب الحركات المسلحة بوحدة دارفور في إقليم على غرار الأقاليم التي جعلها جعفر نميري في سنوات حكمه (الخصبة) لا مركزية.. ساهمت في نقل السلطة من المركز للأقاليم قبل أن تتمدد الإنقاذ في ذات المنهج وتضاعف عدد الولايات لخمس ولايات في الشمال، وعشر بالجنوب.. وتضيف إليها ولايتين أخرتين في عقابيل قضية دارفور.. ردة فعل أم سياسة؟ المناخ العام الذي اتخذت فيه اللجنة العليا لسلام دارفور قرار زيادة الولايات يشيء بردة فعل حكومية لفشل جولات التفاوض الماراثونية في الدوحة وتشدد الحركات المسلحة في مطالبها بالإقليم الواحد المرفوض من قبل المؤتمر الوطني ومنصب نائب الرئيس المرفوض أيضاً من قبل المؤتمر الوطني كما جاء على لسان حسبو محمد عبدالرحمن رئيس الهيئة البرلمانية رغم ضعف الحيثيات التي تستند عليها الحكومة في رفض فكرة الإقليم ومبدأ إسناد منصب نائب الرئيس لأحد أبناء دارفور، إلا أن القرار المفاجيء بزيادة عدد الولايات جاء في سياق رد فعل الحكومة على مطالب الحركات المسلحة بالإقليم الواحد لتتباعد مواقف الأطراف من الحل المرتجى في الوقت الذي بدأت بعض القيادات الدارفورية حتى من داخل حوش المؤتمر الوطني، تقلل من ثمرات إستراتيجية دارفور الجديدة، والتي فشلت حتى اليوم في توطين العدالة وملاحقة مجرمي الحرب من عصابات النهب و(تجار) الصراع القبلي، لتعلن الحكومة زيادة الولاية وتنقسم جنوب دارفور لولايتين.. ولاية بحر العرب التي اختيرت الضعين عاصمة لها.. ودواعي نهوض الولاية أملتها تداعيات انفصال الجنوب وظلال الانفصال السالبة على الأوضاع الأمنية بالمنطقة والمشكلات الناجمة عن الحركة السكانية بين الدولتين، لكن بوادر رفض الولاية جاءت على لسان أحد قيادات محلية الضعين من غير الرزيقات، حيث رفض البرقد ضم منطقتهم لولاية بحر العرب، فيما دعا د. فاروق أحمد آدم القيادي في المؤتمر الوطني لتقسيم دارفور لثماني ولايات بعد أن أخذت الحكومة بمبدأ التقسيم، وقال د. فاروق حديثاً عقلانياً بدعوة الحكومة تحمل أعباء الولاياتالجديدة من حيث التأسيس وانفاق الأموال والكف عن مبدأ تقسيم وتوزيع الأصول الذي اتبعته الحكومة غداة تقسيم الولايات عام 1994، وفي غرب دارفور فإن ولاية جبل مرة التي أصبحت زالنجي عاصمة لها يمثل قيامها استجابة مباشرة لمطالب الفور بالمؤتمر الوطني، وعملاً بنصائح الدمنقاوي فضّل سيسه.. والسلطان صلاح الدين الفضل.. ومن المفارقات في التقسيم الجديد أن ولاة جنوب دارفور وغربها سيفقدون (مواقعهم) الحالية في حال إعلان قيام الولاياتالجديدة، فالشرتاي جعفر عبدالحكم من محلية وادي صالح قرية (دليج) وهي المحلية الثانية بعد زالنجي في الولاية الجديدة، بينما يمثل د. عبدالحميد موسى كاشا رمز قبيلة الرزيقات، وهو ينحدر من بيت كبير في عشيرته.. ويحظى كاشا بتقدير وثقة أهله في الولاية الجديدة ومنطق (المحاصصات) الجهوية سينزع السلطة من كاشا وجعفر عبدالحكم في نيالا والجنينة، ويفتح باب التنافس لأربعة مقاعد أنيقة ووثيرة ولكن هل تصبح المشروعية الشعبية التي حصل عليها كاشا وجعفر عبدالحكم من خلال صناديق الاقتراع مثل مشروعية وزراء جنوب السودان في الشمال بعد انفصال جوبا عن الخرطوم؟ اختارت الحكومة كدأبها الحلول بالتجزئة وفعل الشيء ونقيضه، فإذا كانت الحيثيات السياسية أملت عليها قرار تقسيم دارفور لخمس ولايات، فإن القرار يصادم توجهات الحكومة وسياساتها المعلنة لخفض الاتفاق وتقليل المصروفات وتشكيل حكومة صغيرة الحجم فاعلة العطاء بعد التاسع من يوليو القادم.. ويصادم القرار توجيهات الرئيس للولاة بتقليص هياكل الحكم في الولايات التي تمددت وأصبحت تمتص الإيرادات كالرمل للماء، ويبلغ عدد الدستوريين في حكومة جنوب دارفور وحدها أكثر من (60) وزيراً ومعتمداً ومعتمد رئاسة ومستشاراً وقيادياً في المجلس التشريعي، ويشكو وزير المالية من تعدد أوجه الإنفاق الحكومي وشح الموارد بعد استقلال الجنوب، ولكن قرار زيادة ولايات دارفور يضاعف من أوجه الصرف ويضع على عاتق الخزانة أعباء جديدة في ظل موارد شحيحة أصلاً.. ومنطق الحكومة في زيادة عدد ولايات دارفور لخمس سيجعلها تعيد النظر عاجلاً في قرار تذويب ولاية غرب كردفان لتصبح الفولة عاصمة للولاية الجديدة القديمة وبذات منطق دارفور، فإن لغرب كردفان أطماع وأشواق في ولاية عاصمتها النهود.. وولاية عاصمتها الفولة.. وبين الفولة والنهود بضع كيلومترات ووادٍ صغير تنام في أحضانه منطقة الأضية.. ولأهل شرق كردفان مطلب بإعلان قيام ولاية قدير وعاصمتها الرشاد، وللنوبة أشواق قديمة بولاية جبال النوبة.. ولجنوب النيل الأبيض حجة في قيام ولاية عاصمتها تندلتي.. وفي الشرق والشمال مطالب أخرى كانت كفيلة بإقرار مبدأ الأقاليم.. إقليم شمالي وعاصمته الدامر.. وإقليم أوسط وعاصمته ودمدني.. وإقليم شرقي عاصمته كسلا.. وإقليم غربي وعاصمته الفاشر.. وإقليم كردفان وعاصمته الأبيض.. والعاصمة القومية الخرطوم ولكل إقليم والٍ أو حاكم.. والأخيرة أبلغ وأحب لنفوس السياسيين خاصة المتسلطين منهم.. وتحت كل حاكم مجلس وزراء من أربعة وزراء فقط للمالية والخدمات العامة والزراعة والشؤون الاجتماعية.. ولتصبح الولايات الحالية محافظات.. والمحليات إداريات أو مجالس محافظات بيدها كل سلطات المعتمدين الحالية، وتعيد الإنقاذ للمعلمين هيبتهم بعودة طيور المهن المهاجرين للحكم اللا مركزي، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث ولن يحدث، فقد ذهبت الحكومة بتقديراتها السياسية وردة فعلها الضارية لفشل التفاوض نحو زيادة عدد الولايات لتقول لفرقائها في الحركات المسلحة من لم يركب معنا فليشرب من البحر أو وادي خور بنيالا أو أربعات.