في هدوء وتواضع شديدين مهد المشير عمر حسن أحمد البشير رئيس الجمهورية بتوقيعة قراراً بإحالة «القائد العام للقوات المسلحة المشير عمر حسن أحمد البشير للتقاعد بالمعاش».. وهكذا يترجل «أرجل راجل» من أرفع منصب في القوات المسلحة بدون ضوضاء ولا مذكرات ولا مناورات.. ولعل الناس في تناولها اليومي للوجبات السياسية «عسيرة الهضم» لا يذكرون منصب القائد العام الذي شغله «عمر حسن»، هكذا اسمه في الجيش، طيلة عقدين من الزمان بما فيه من مهام جسام وقلق وأرق ورهق وتعب ونصب.. والسيد الرئيس نفسه لم يلزم أحداً بذكر ألقابه ومناصبة قبل ذكر اسمه.. فهو رئيس الجمهورية القائد العام للقوات المسلحة رئيس المؤتمر الوطني.. وقد يقول قائل إن الذي فعله المشير البشير مجرد استحقاق انتخابي يتيح له ترشيح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية بلا طعون ولا احتجاج.. وهذا صحيح ولكن الصحيح أيضاً أن المشير البشير قد بلغ السن القانونية للمعاش ولم يستثنِ نفسه، وهذا ما يجعل القرار أكبر وأهم من مجرد استعداد لخوض الانتخابات.. وقد رأينا المعاشيين في أكبر حشد في القصر الجمهوري يعلنون عن وقوفهم إلى جانب القائد العام الذي أحال معظمهم للمعاش من موقع مسؤوليته العسكرية، وهاهو يلحق نفسه بهم ليكون مواطناً عادياً يحق له الترشح لأى منصب في الدولة، مسنوداً بتاريخ باهر وأداء ظاهر وخبره نادرة قلَّما تتوافر في غيره من المرشحين لرئاسة الجمهورية. عمر حسن رجل الجيش القوي الذي ساقته الأقدار لهذا المنصب، كان قد اختير لدراسة الطيران في الاتحاد السوفيتي «العظيم».. عظيم الله .. وأكمل إجراءاته وسافر لجمهورية مصر العربية، ثمَّ عاد منها إلى بلاده بعد أن ساءت العلاقات السودانية السوفيتيه، فاختار سلاح المظلات الذي يقودة اليوم اللواء ركن عبد الحميد عثمان محمد أحمد، الفارس المغوار الذي كان طفلاً في كنف والده الضابط بالقيادة الغربية مطلع الستينيات من القرن الماضي.. عندما جاء إليها الملازم عمر حسن اختياراً.. وقد كان الرئيس حفيَّاً باللواء عبد الحميد عندما كان قائداً للحرس الرئاسي عندما يؤدي له التحية العسكرية.. فيقول: «عبد الحميد كان -شافع- بيحييني في نيالا وبقى لواء بيحييني برضو».. عمر حسن عمل في الغربية قبل أن يتحول للمظلات.. وشارك مع القوات المسلحة في «الجبهة» بجمهورية مصر مرتين.. وتلقى تدريباً عالياً في الولاياتالمتحدةالأمريكية - وماليزيا - وباكستان - ومصر. ونال أعلى الدرجات وأرفع الأوسمة.. وعمل في أبي ظبي وعمل في كل المناطق الساخنه في بلادنا.. ولازال الناس يذكرون عمر حسن في منطقة غرب النوير الذي انتزع «ميوم» من أيدي التمرد عنوة واقتداراً.. ولم يكن تسليح قوته ولا تشوينها بالدرجة المعقولة لكنها الهمة والشجاعة والاقتدار. ولم يسجل التاريخ «لعمر حسن» أنه أنقذ كادقلي من الاحتلال.. فقد عاد بقواته التي أعاقت الأمطار تقدمها لمدينة كادقلي التي كانت شبه خاليه من القوات، وكان المتمردون على بعد خطوات منها.. فصدهم عمر حسن ولم تتحرك القيادة العامة التي لم ينتظر «عمر حسن » أوامرها، ولم تكن كادقلي تقع ضمن مسؤولياته لكنها «الهمه» مره أخرى. ويضحك «عمر حسن» عندما يذكر هذه الواقعة ويقول: «لي يوم الليلة ما في زول من القيادة سألني أو شكرني أو حاسبني!!». عمر حسن كان هو «الاستثناء» الوحيد الذي لم يوقع بالاستلام على «التعيينات» التي كانت موجودة على الورق فقط، بل يتردد التجار جيئة وذهاباً ليحصلوا على التوقيعات والأختام ويذهبوا بعد ذلك للقيادة ليقبضوا «القيمة كاملة» لمواد غير موجودة أصلاً، ويدفعوا «المعلوم» لجهات معلومة ومنها أصحاب التوقيعات بالطبع.. واحتار التجار في هذا القائد الذي يخالف ما جرت علية العادة ويرفض أي معاملة غير صحيحة.. بل ويرفض عربة مارسيدس فاخرة ويفضل عليها «زوبة» تلك الهكرة الصغيرة الحمراء.. عمر حسن كان هو الضابط الوحيد الذي عاد من الاغتراب «صفر اليدين» إلا من «شهادة آخر صرفية»، فقد أنفق حصاد الغربة على أهله وذويه وأصدقائه.. عمر حسن كان هدفاً مفضلاً لكل التنظيمات السياسية في الجيش بمختلف توجيهاتها، فقد كانوا يرغبون دوماً في أن ينضم إليهم «عمر حسن» لعلمهم بمقبوليته في الجيش والمجتمع لنظافة يده ولسانه.. ولشجاعته وإقدامه.. ولمهنيته وقدراته الذهنية.. وفوق ذلك لورعه والبركة التي تحل على يديه أينما وضعهما.. العميد ثمَّ الفريق ثمَّ المشير عمر حسن أحمد البشير قاد القوات المسلحة إلى جانب رئاسة الجمهورية، وهو يعتبر أن الجيش هو «ساسو وراسو» من طالب حربي إلى قائد عام، وأن الوظيفة المدنية مهما علا شأنها فهي استثناء فرضته عليه الظروف، وهو لا يرغب فيها وإن كان لا يتهرب من مسؤولياتها، ولعل الناس يذكرون بطل الحرب «المفروضة» وبطل السلام «المنبور» الذي جاء للناس بالخير والأمن والسلام بإذن الله. لقد ظلت بلادنا تفتقر إلى «زعيم» يجتمع الناس حوله ويجمعون على أنه الأفضل والأقدر لقيادة بلادنا نحو مرافئ العزة والشموخ والرفاهية، حتي قيَّض الله لهم عمراً «هدية السماء لأهل السودان». لابد أن القوات المسلحة كافة حزينة وغير مصدقة أنها فقدت قائداً فذاً وبطلاً هماماً، لكنها كعادتها تؤثر على نفسها ولو كان بها خصاصه.. وأتطلع شخصياً «لاحتفال مهيب» يسلم فيه الرايه للقائد العام الجديد، ويالها من مسؤوليه تنوء من حملها الجبال. صبيحة الثلاثيين من يونيو 89 كانت «الحاجة هدية» في الحصاحيصا في طريق عودتها للخرطوم، عندما تناقل الناس خبر الثورة وقالوا إن قائدها اسمه «عمر حسن»، فقالت «الحاجة هدية» بعفويتها المحببة: «نبرى يا يمة.. الحكم ما دايرنو.. عمر حسن في الجيش كتير». ومعذرة للحاجة هدية «والله عمر حسن زيو ما في». وهذا هو المفروض