جاء رد المفوضية القومية للانتخابات على مذكرة الأحزاب الاحتجاجية جامعاً «مانعاً» ومتمترساً في نفس خنادقها العتيدة، بعضه موضوعيٌ وبعضه الآخر مسنودٌ «بقوة الواقع» أو «واقع القوة» الذي تعمل في ظله المفوضية. ولنبدأ من الآخر.. فقد كان «مسك ختام» الرد المطول والمفصل هو رأي المفوضية في مطالب الإصلاح التي سطرتها الأحزاب في مذكرتها، وهو الرأي الذي يمكن تلخيصه في المثل العربي القديم «سبق السيفُ العذَل» أو المثل السوداني الدراج «حفر إيدك وغرق ليك»؛ كما ذهب د. عبد الله علي إبراهيم في أحد تعقيباته على «إضاءتنا» حول مذكرة الأحزاب الأسبوع الماضي. فقد جاء في رد المفوضية أن مذكرة الأحزاب طالبت المفوضية بحلحلة القضايا المطروحة «في فترة أسبوع»، وهي: حل الخلاف حول الإحصاء السكاني وتوزيع الدوائر الجغرافية بصورة عادلة متفق حولها، ورفع حالة الطوارئ في دارفور، وإيجاد حل ترتضيه الفصائل المسلحة في الإقليم وعدم تجزئة الانتخابات، وإلغاء تسجيل القوات النظامية، ومعالجة خروقات التسجيل الانتخابي حتى وإن استدعى الأمر إعادته، بجانب تحقيق الشراكة مع الأحزاب عبر الآلية المقترحة منكم سابقاً بين الأحزاب والمفوضية، فضلاً عن إلغاء الآلية الإعلامية المشتركة، وإنشاء مجلس للإعلام وإلغاء منشور الحملة الانتخابية. وتساءل رد المفوضية، الموقع من قبل رئيسها مولانا أبيل ألير، عما إذا كان يمكن (عملياً) الوفاء بهذه المطلوبات في (فترة الأسبوع) التي حددتها المذكرة؟ قطعاً، فإن أصحاب المذكرة لم يقصدوا من فترة الأسبوع سوى تلقي رد بالموافقة على مطلوبات الإصلاح، وليس إنجاز وتنفيذ تلك المطلوبات، فهم ليسوا جماعةً أصابها «الجنون الجماعي» ولم تدهمهم لوثة كتلك التي أصابت سكان «أم مراحيك»، لكن من صاغ رد المفوضية أراد تهزئتهم و«بشتنتهم»، وهو يعلم أن «الأسبوع» ليس أكثر من موعد لتلقي الرد والاستجابة «بالوعد» لتنفيذ المطلوبات، وحتى ذلك كان مكان استنكار في تصريحات تلفزيونية لنائب رئيس المفوضية الذي أعلن أنهم غير ملزمين بالموعد الذي قطعته المذكرة. لكن المفوضية، من جانب آخر، محقة في قولها وتساؤلها عن هل يمكن للمفوضية، وإن كانت لها الصلاحية، أن تنجز حل الخلاف حول الإحصاء السكاني ورفع حالة الطوارئ في دارفور وإيجاد حل ترتضيه الفصائل المسلحة في الإقليم في الفترة التي حددتموها، علماً بأنه يفصل بيننا وتاريخ الانتخابات زهاء ثلاثين يوماً فقط، وهل يمكن للمفوضية إعادة الإحصاء السكاني وتقسيم الدوائر وترسيمها من جديد، ثم إعادة التسجيل وما يستتبعه من طعون وإعلان وترشيح في فترة الشهر المتبقية لنا قبل الاقتراع. وأوضحت المفوضية بجلاء أن الخلاف على الإحصاء السكاني، وإيجاد حل ترضيه فصائل دارفور المسلحة، وإنشاء مجلس يشرف على أجهزة الإعلام لا يقع ضمن مسؤولياتها وصلاحياتها، مثلما أبانت أن تأخير تشكيل المفوضية بعد إقرار قانون الانتخابات لا تُسأل عنه، فتلك انتقادات صوبتها المذكرة إلى العنوان الخطأ، كما أشرنا في «إضاءتنا» حول مذكرة الأحزاب. أما حول اتخاذ المفوضية لإجراءات محددة توقف استغلال «المؤتمر الوطني» للسلطة وأجهزة الدولة، فقد ذكرت المفوضية أنها وجهت كتاباً لرئيس الجمهورية وآخر لرئيس حكومة الجنوب، مبينةً ضرورة التزام المرشحين بعدم استغلال إمكانات الدولة في حملاتهم الانتخابية. صحيح أن هذا يمكن تصنيفه في خانة «جهد المُقل»، ولكن ما عساها أن تفعل أكثر من هذا -يا حسرة- في مناخ «واقع القوة» الذي تعمل في ظله، تماماً كما هو حال الأحزاب التي لم تتمكن من تبديله وإنجاز مطلوبات التحول الديموقراطي. وبشأن تسجيل بعض القوات النظامية في مواقع العمل فقد تعللت المفوضية- ولا أعلم تكييفاً مقبولاً لمثل هذا التعليل- بأن «بعض أفراد القوات النظامية يقيمون في ثكنات هي نفسها مقار عملهم، أي تطابق السكن مع موقع العمل»، فمثل هذا المنطق يستبعد فرضية أن لهؤلاء مساكن خاصة كما هو حال بقية الناخبين والبشر، وبالتالي لا سبيل إلى تسجيلهم إلاّ حيث هم. وإذا ما افترضنا أن ذلك صحيح؛ فهل ستتمكن المفوضية من تأمين وضمان وصول المرشحين والأحزاب إلى هؤلاء في ثكناتهم العسكرية ضمن فعاليات الحملة الانتخابية، أم أن ردها وتعللها بهذا الشكل نوع من «الملاواة» والتمترس في الخنادق العتيدة. في موضوع الطباعة لجأت المفوضية في ردها إلى شيء من «مسح الوبر فوق الدبر» كما يقولون، فتحدثت بحديثها القديم، عن طرح بطاقات الاقتراع بتصنيفاتها الأربعة في عطاءات دولية، وأنه قد رسا العطاء لمجموعتين على شركتين من جنوب أفريقيا ومجموعة واحدة على شركة بريطانية والمجموعة الرابعة على شركة من جمهورية سلوفانيا، وهي المجموعة التي تخص بطاقات الاقتراع للمناصب التنفيذية «رئيس الجمهورية والولاة». وأن المفوضية (رأت) أن نتيجة الانتخابات قد تقتضي إجراء جولة ثانية لانتخاب رئيس الجمهورية، وبما أن الفترة بين إعلان النتائج والجولة الثانية هي (21) يوماً فترة قصيرة لن تمكن المفوضية من طباعة بطاقات الاقتراع في سلوفانيا، لذلك (قررت المفوضية) ترسية عطاء هذه المجموعة على إحدى الشركتين السودانيتين، و(رأت) ترسية العطاء على مطابع العملة السودانية لاعتبارات «السرية التي تحيط بأعمالها والخبرة الممتدة». وفي هذا نقول مثلما قلنا من قبل إن (السرية) ليس من مطلوبات طباعة بطاقات انتخابية، بل على العكس تماماً فإن المطلوب هو (الشفافية) لتمكين من يهمهم الأمر: الأحزاب والمرشحين، من متابعة عملية الطباعة والتأكد من أنه تم استخدام الورق المخصص لتلك البطاقات، وأن التالف قد تم التخلص منه بصورة معلومة وأنه لم يحدث تكرار أو (بلوكيشن)، وهذا ما نبه له المستر راي كينيدي رئيس قسم العون الانتخابي ببعثة الأممالمتحدة في خطاب معلوم وموثق للمفوضية. لكن الإضافة الجديدة في رد المفوضية هي أن بطاقة الاقتراع لن تعتمد «إلاّ بتوقيع رئيس مركز الاقتراع وختم المركز المعين ولا يعتد بأي بطاقة غير مختومة وغير موقعة.. وأن جميع هذه العمليات تتم وتجري تحت نظر وبصر المراقبين ووكلاء الأحزاب، خاصة وأن صناديق الاقتراع لن تغادر مركز الاقتراع إلى حين إعلان النتيجة في المركز ذاته»، وهذا ما يجلب بعض الطمأنينة، ولكن يظل السؤال قائماً وقد يؤشر إلى «خنادق أخرى»: لماذا لجأت المفوضية إلى الطباعة في مؤسسة حكومية وليست (شركة أهلية) إذا ما سلمنا معها بقصر المدة الفاصلة بين إعلان النتائج والجولة الثانية للانتخابات الرئاسية، ومع ذلك فمدة ثلاثة أسابيع كافية - كما أوضحنا من قبل- لطباعة البطاقات في الخارج بالماكينات الحديثة وإيصالها جواً إلى أي مكان في العالم.. ولماذا أخذت قرار الطباعة في «مطابع العملة» على عاتقها ولم تستشر الجهات المانحة بدليل تنبيه المستر كينيدي؟ كل تلك أسئلة تستحق الإجابة.أما في ما يتصل بمنشور المفوضية، فجميل أن توضح المفوضية أنه كان من قبيل «التوجيه والإرشاد»، وأنه غير ملزم بل ينبه فقط للقوانين السارية التي لا «تملك تجاهلها»، خصوصاً قانون الإجراءات الجنائية. ويعلم القائمون على أمر المفوضية-بالضرورة- أن قانون الانتخابات هو «القانون الخاص» الذي يسود ويعتد به في مواجهة «القانون العام» الذي هو قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991، وهذا ما استجابت له وزارة الداخلية قبل المفوضية، عندما أصدرت منشورها الذي يأذن بالحملة الانتخابية والذي تتمسك به الأحزاب. والملاحظة الأساسية في هذا الصدد تتعلق بالمدة الزمنية التي حددتها المفوضية للحصول على الإذن بالمواكب والتجمعات في الميادين العامة «بما لا يقل عن 72 ساعة»، وهذا ما رأت فيه مذكرة الأحزاب محاولة تضييق على أنشطتها الانتخابية.وفي الختام، نقول إن المفوضية «معذورة» إلى حد ما في بعض ما اتخذته من إجراءات وخطوات، فهذا أقصى ما يمكن أن تفعله في ظل «واقع القوة» الذي تعمل في إطاره.