رحل أستاذنا الكبير، سيد أحمد خليفة، هكذا، فجأة دون مقدمات.. رحل وهو على أرض مصر التي يحبها بعد أن جاء إليها لقضاء بضعة أيّام للنقاهة، بعد أن عاود أطباءه المعالجين في الأردن، واطمأنّ على حالته الصحيّة، بعد عام على عملية القلب المفتوح، التي أجراها هناك. رحل (أبوالسيد) الذي نحبّه ونحترمه، ونقدّره؛ لأنّه يستحق ذلك، ولأنّه يساعد ناشئة الصحفيين، ويفتح أمامهم الأبواب، ويأخذ بأيديهم في دروب لا تكون سالكة في كثير من الأحيان.. رحل (أبوالسيد) فجأةً، ليجيء رحيله بمثابة زلزال، ضرب الوسط الصحفيّ كله، ونزل نزول الصاعقة على الجميع. أدّعي بأنّني كنتُ من خاصته، وأحسب أنّني من المقربين إلى قلبه -رحمه الله- فقد كان أباً وأخاً وصديقاً حميماً.. لا أنسى عباراته التي يقولها لكثير من الزملاء، بأنّ له من الأبناء أربعة: يوسف، وعادل، وأمير، ومصطفى.. فقد كان ذلك يسعدني كثيراً لأنّ علاقتي به قديمة، وكنت أعمل معه في مكتب صحيفة (المدينة) السعودية بالخرطوم، عندما كان مديراً له ذات يوم، خلال فترة حكم الرئيس الراحل، جعفر محمد نميري -رحمه الله- وكان ما أجده نظير عملي أكثر من ضعفي راتبي الرسميّ في صحيفة (الأيّام) وكنت وقتها أرى أنني آخذ أكثر مما أستحق، على اعتبار أنّ الأخبار والتقارير والتحقيقات التي أقوم بها هي أمر عاديّ، لكنّه لم يكن يرى ذلك إذ كان يقول: إن قيمة ما أقدّمه أعلى من ذلك بكثير، وكان يحفّز في نفسي التحدّي ويوقظه.. بل كان يقدّر كل جهد يقدمه له أي صحفي صغير يعمل معه، ويرى فيه موهبة كبيرة. وعندما عادت (الوطن) للصدور في عهد (الإنقاذ) التقاني في مأتم السيدة الفضلى، حرم السيد حسن بخيت، ووالدة الأستاذ كمال وإخوانه، وطلب إليّ أن أزوره في مكتبه بصحيفة (الوطن) وعندما زرته سألني، ماذا أفعل الآن، فقلت له: إنّني اتّجهت لبعض العمل الخاص، بعيداً عن الصحافة التي أعمل بها حيناً من الدهر، وأغيب أحياناً.. وطلب إليّ أن أكتب للوطن زاوية يوميّة فقط.. وهكذا جرجرني للعمل في الصحافة بكل جزئيّاتها، وكان يحتفي بكل مادة تحريرية أقدمها له، لتصبح (مانشيتاً) يتصدّر الصفحة الأولى، أو يثير من بين متونها وهوامشها (قضيّة) تبدأ بما اشتهرت به مادّته الصحفيّة المقروءة (صباح الخير).. وأخذت أقدّم (المانشيتات) المتتالية المتوالية، ومن بينها ما حمل اسم هذه الزاوية، وآخر كان (الحكومة في ورطة) وثالث كان حواراً مع السيد رئيس الجمهورية، أجريته معه في مناسبة خاصة بمنزله، فأقام الدنيا ولم يقعدها. غبت بعد ذلك ، وانتقلت للعمل في صحيفة (أخبار اليوم) فأعادني من جديد إلى (الوطن) بل كبّلني بمنصب نائب رئيس التحرير، إلى أن أصدرنا (آخر لحظة) قبل أربع سنوات من الآن.. ومع ذلك لم تنقطع صلتي به على الإطلاق، بل كان يُقْدِم على عمل باسمي مقروناً باسمه، ولا يستشيرني، بل يخطرني بعد ذلك للعلم.. مثلما فعل في قضية المواطن الألمانيّ المسلم، المتزوّج من سيدة سودانيّة، له منها ثلاثة أطفال.. فقد تحمّل جزءاً من تكلفة عودة الأسرة إلى ألمانيا، وحمّلني ما حمّله لنفسه، ثم هاتفني بذلك، ولم أملك إلاّ أن أوافق. الآن رحل (أبوالسيد) وهو الاسم المحبّب إلى نفسه، والذي كنت أخاطبه به، ويتداوله معي أبناؤه، يوسف، وعادل، وأمير.. رحل (أبوالسيد) وقد ترك فراغاً كبيراً وعريضاً في دنيا الصحافة السودانية والصحافة العربية التي عرفته مراسلاً حربيّاً جسوراً، وقلماً إنسانياً رفيعاً ومؤثراً.. رحل (أبوالسيد) الصحفيّ العصاميّ الفذّ، وترك وراءه أبناء وبنات وتلاميذ كثر في هذه المهنة، التي يحترق من يعمل بها، دون أن يحسّ بالنار تشتعل في أطرافه. رحم الله أستاذنا وأستاذ الأجيال، سيد أحمد خليفة، الذي عرفته في الضيق والشدة، وفي اللّين والرخاء، وكنت شريكه في الاعتقال أكثر من مرة، وداخل الزنازين.. رحم الله (أبوالسيد) صاحب البيت المفتوح، والقلب الكبير، وأسأل الله أن يحفظ يوسف، وعادل، وأمير، إرثه العظيم الذي حمل اسم (الوطن) وأن يرحمه الله رحمة واسعة، وأن يغفر له، وأن يدخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.. « إنا لله وإنا إليه راجعون » .