أن تكون كاتباً في قوم، عليك في هذه الحالة أن توثِّق كل أشكال الحياة، التي تطرب لها والتي لا تطرب لها، الحالة الدينية، الثقافية، الغنائية. { فلكل منطقة ثقافتها ومنطقها وطريقتها في التعبير عن أفراحها وأتراحها، فالمنطقة التي نشأنا وترعرعنا فيها تبدو كما لو أنها تقع في«منخفض ثقافي» فلا أصبحنا رباطاباً ولا أمسينا ميرفاباً، أعني هنا هذا الحزام السكاني الذي يتشكّل من «بيت الانقرياب» الذي ينحدر من صلب قبيلة العبدلاب، حتى أن في تاريخنا مملكة إسلامية سارت بسمعتها الركبان عبر الأزمان، فالموقع الجغرافي، بين مؤخرة الجعليين ومقدمة الرباطاب وجعلنا نتأثّر بالثقافتين، بل أن نتميز «بمشكل أدبي» ينزع إلى الجهتين ويؤسس لقلعة فكرية وأدبية لها نكهتها وطعمها المميزين، كان أسلافنا «يعرضون» في المنطقة الوسطى بين محمد عمر الرباطابي وسيد الجعلي، إلى أن نهض الراحل المطرب عبد الكريم الحوري الذي جعل من «معدية الباوقة» محوراً لأغانيه، يذهب مع المعدية شرقاً وغرباً، والحوري نفسه تشكيلة مدهشة من مجموعة بطون ثقافية، بل بدا كما لو أنه خلاصة لتلاقٍ اجتماعي وأدبي بين «الجعليين والرباطاب والانقرياب»، والذين التقوا هنا بالقرب من الشلال الخامس ذات لحظة تاريخية مهيبة. { فنسطيع أن نؤرِّخ لبداية مرحلة تشكيل وجدان هذه المنطقة المتباينة عشائرياً المتجانسة اجتماعياً، بظاهرة عبد الكريم الحوري الذي أصبح الناطق الرسمي لأفراحنا، والحفل الذي لم يحيه الحوري يومئذ هو حفل بلا هوية وبلا عنوان، والمعدية هي المفردة الأشهر التي يعبُر بها المحتفلون شرقاً وغرباً، وظهرت أيضاً مفردات من بساتين المنطقة من التمور «ود لقّاي» والبرتقال، أما التفاح فله قصة مدهشة، قيل إن الشهيد الزبير محمد صالح قد سجّل ذات صيف زيارة لمنطقة الباوقة، ولما توسّط بساتين الباوقة الشهيرة بنخيلها وبرتقالها وليمونها والمانجو، سأل الرجل عن «مزارع التفاح» وفي ذاكرته (نسِد الساحة ونشيل مفتاحا ونزور الباوقة اللذيذ تفاحا). وكان الرجل جاداً في سؤاله، فقال له أحد الشيوخ الحكماء» التفاح يُزرع هنا في البيوت وليس على قارعة البساتين والطرقات»! فاستدرك الرجل وقال «ما تواخذونا يا جماعة نحن ناس عِجم» يعني أنه ينتمي لأمة النوبة الشماليين، وهي الأغنية ذاتها التي يقول أحد مقاطعها (الديوان النظامو كراسي) (ويوم مشينا العمده ورفض ما يمضى .. حليل الزول الحمانا الغمده).. { ثم جاء من بعد الراحل الحوري المطرب عبد الواحد مديني وقد بلغ صوته الأجهزة القومية، ومن أغانيه (الخضرة كاسيه جروفا.. مشتاق أنا لديارها أطوفا) وغنى أيضاً لفتوار و«الجول المقابل الشام» وكانت «آلة الطنبور» هي الآلة الرسمية وصوتها هو «لغتنا الفنية الدارجة»، ثم تناثرت هنا وهناك بعض المشروعات الفنية. { إلى أن جاء عصر «حافظ موسى» فقد جاءني ذات مساء منذ عدة سنوات الأخ حافظ موسى يطلب مني أن أتشفّع له أمام المصنفات القومية، وهو يومئذ بصدد إصدار إلبومه الأول، وكنت قد سمعت بأنه قد أصبح مطرباً في مضاربنا تلك وكنت صادقاً معه ومع نفسي، بأني لم أستمع إلى أغانيه، فيجب أن أجيزه أنا قبل المصنفات، فقد جاءني الرجل في اليوم الثاني «يحمل طنبوره»، وأقام لي حفلاً أنا جمهوره الوحيد، فغنى لي ما شاء أن يغني، أطربني الطنبور صراحةً، ثم وعدته أن أذهب معه غداً لجهات الاختصاص، فدخل علينا بعده صديق العمر شيخ عبد المنعم الزين، الإمام والخطيب، فقلت له أنا بصدد أن «آخذ بيد مطرب» حتى يعلو شأن مضاربنا، قال لي شيخ عبد المنعم «لا حول ولا قوة إلا بالله» أنت تدفع الرجل في الطريق الخطأ.. { لم يأتني الأخ حافظ موسى كما وعدني وبدأ أنه قد عثُر على خارطة طريق أخرى، ولكن جاءتني أشرطته وأنغامه أينما ذهبت، فلقد بلغت سمعته كل الأنحاء. أكتب هذا المقال بمناسبة مروري بعدة محال تجارية بحلة كوكو، وكلها تضج بصوت وأغاني حافظ موسى. إنه ذلك الألبوم الذي لم أشارك في صناعته..