فُجعت الأوساط الإعلامية والفنية والثقافية والأدبية برحيل الزميلة الخلوقة أناهيد كمال المأمون بعد رحلة عمر قصيرة بالسنوات ولكنها عامرة بالبذل والعطاء. عاشت أناهيد حياة عريضة.. عرفتها صفحات الجرائد أختاً كريمة سنتذكرها دائماً ونحن نكتب، وسنتذكرها ونحن نتكلم..أما لحظات الصمت التي ستمر بنا فسوف تملأ نفوسنا حزناً وحسرة على شبابها الغض... كانت أناهيد تجاورنا في السكن..أذكر أن والدتها رحمها الله بشرية مبارك معلمة الأجيال جاءتني برفقتها إلى منزلنا (متوسِّمة) الخير في شخصي الضعيف حيث كانت تريدها أن تدخل الحقل الصحافي وطلبت مني الاهتمام بما تكتبه من مواضيع.. وكانت وقتها طالبة بجامعة شرق النيل وأيضاً جامعة النيلين.. كانت بداية الفقيدة معي عبر صحيفة (الدار) في منتصف التسعينيات بمادة صغيرة تحت عنوان (رؤية) ثم عملت معنا في جريدة (الحدث) لمالكها الأستاذ عبدالله دفع الله أنا والزملاء محمد الأمين نورالدائم وعثمان نصر حيث كنت أشغل منصب مدير تحريرها ولم أبخل عليها بالمساحة والدعم فمنحتها فرصة كتابة عمود راتب بعنوان (عطر الصندل) ثم ما لبثت أن انطلقت بموهبتها الكبيرة التي لمستها عن قرب فمنحتها تحرير صفحة كاملة خاصة بالنساء وهمومهن وقضاياهن، ومنذ ذلك الوقت أصبحنا أصدقاء نتبادل أطراف الحديث ونتناقش بموضوعية في مواضيع شتى، انحصر معظمها في هموم هذه المهنة.. وللحقيقة عندما اقتربت منها اكتشفت أنها إنسانة طيبة وودودة ومخلصة في كل ما تقوم به بصدق وأقصى جهد، فكان دائماً عطاؤها مميزاً بحجم الطموح.. وفية جداً لكل من عرفها وذلك من أفضل وأجمل مزاياها... تمثل كل المستويات الإنسانية.. تحمل روحاً مهذبة.. ذكية تسعى لاكتساب ومعرفة الجديد. باحثة عن دور تؤديه على مسرح الحياة الكبير، وقد تفوَّقت في أداء هذا الدور.. تمضي الأيام ويرحل من نُحبُهم ولا تبقى في الذاكرة منهم إلا هذه الإشراقات وومضات الأدوار التي قدموها.. كانت أناهيد فنانة بحق رقيقة شفافة..عاشقة لكل أنواع الإبداع في الفكرة الجديدة والكلمة المعبِّرة عن إحساس واقعها لأنها كانت تُحب أن تستمع لكل من تحبه في حياتها، وكانت تسعد أن تظللهم السعادة التي جمعت القلوب حولها من خلال مشوارها الإعلامي. وخير مثال لذلك أنها متعددة المواهب..متنوعة المواضيع لتفاؤلها بتحقيق الأهداف المتسقة مع قناعاتها... تميَّزت مجموعتها القصصية (متعة الذاكرة) بلغة شاعرية عالية تحمل بعض ملامح الحياة السياسية والاجتماعية، وتحدثت عن اليهودي الذي عاش في الخرطوم ثم هاجر إلى أمريكا وارتباطه عاطفياً بسودانية هاجرت مع أسرتها بحثاً عن المال ليفاجأ في النهاية أن القصة العاطفية ما هي إلا خدعة بحثاً عن المال أيضاً.. فلم تهجر عشقها أو رسالتها في خدمة الحركة الثقافية والتوثيق لها وكانت أُنموذجاً يُحتذى به لأنها تيقَّنت أن ظروف مجتمعها تطلب منها تجاوز حدود التخصص الواحد، فاقتنعت بأن الحركة الثقافية والفنية والأدبية حلقات لا يقوم بعضها إلا بقيام الآخر واستواء عوده.. فكانت أناهيد حاضرة دائماً في الوقت المناسب لصناعة شيء جميل يُبهج الحياة ويؤسس عملاً راقياً امتزج بهمومها في كل المجالات التي تخدم تأصيل الفنون والثقافة في وطنها الكبير وإبراز قيمه الإبداعية... وداعاً أختي العزيزة..أناهيد كمال المأمون فليس هناك من شيء يعيب الإنسان بالانكسار أكثر من أن يلتفت حوله فيجد كل الأعزاء قد غابوا واحداً تلو الآخر.. وعندها ما يلبث أن يجد نفسه في عُزلة أشبه ما تكون على درب الاغتراب... والموت هو اليقين المؤكد لدى كل إنسان وصدق الإمام الحسين حين قال (ما عرفت يقيناً أقرب إلى الشك من الموت). رحمك الله بقدر ما أعطيتِ لوطنك وقد كان عطاؤك كبيراً ومتعدداً تجاوز المصلحة الشخصية وإنكار الذات... العزاء موصول إلى أسرتك المكلومة والدك المعلِّم المعروف كمال المأمون وأشقائك مأمون وفارس وشقيقاتك نازك ووسيلات وناهد، ولأهلك بود نوباوي وكرري العجيجة والثورة الحارة (31) وألهمهم في فقدك الصبر وحُسن العزاء، ولك الرحمة والمغفرة وأسكنك فسيح جناته. أخوك عبدالباقي