ترددت أقوال لبعض المسؤولين كان فحواها أن السياسات التي ظلت تنتهجها سلطة العشرين عاماً الماضية لن تتبدل أو تتغير بدعوى أن الشعب استمد منها ثقته بالحكومة، فبالتالي تعتبر خيار الناخبين الذين تحملوا شظف العيش وتدهور البنية التعليمية والصحية وبذلوا من الجهد الكثير في سبيل تغيير بعض هذه السياسات التي عصف جزء كبير منها بكيانهم وأصاب آمالهم وأحلامهم وطموحاتهم في مقتل. إذا دارت عجلة السياسة في هذه البلاد بنفس تروسها القديمة المتآكلة على طريق الفترة القادمة؛ سوف نفقد فرصتنا لمواصلة السباق العالمي للثقافة والسياسة والاقتصاد الذي شارف (الميس) ووقتها لا نخشى الخروج مهزومين وإنما نتوجس من انقلاب هذه السياسة على أنفسنا ونحترق بلهيبها. ماذا سيفعل مرشحونا الكرام الذين دفعنا بهم في كل اتجاه برلماني أو ولائي أو تشريعي؟ هل سيقرأون علينا ويكررون ما خطته السياسة السابقة بكل تداعياتها ونظرياتها المتكلسة التي غيبت مضامين العمل الجماعي بعقوله الكفؤة وأخلاقه المتينة وروحه المشتركة في الارتقاء بمسيرة البناء والتنمية، أم سيمارسون النوم نهاراً في كنف برلمان قابض ويحلمون بانتفاخ الجيوب ويضربون بوثيقة التغيير التي نطقت بها «بوستراتهم» على الطرقات عرض الحائط؟ الدور الذي سيواجهون به الجهاز التنفيذي هو دور محوري وتاريخي، ليس لعبة كراسٍ يحرك نشاطها الانتصار الشخصي، المهتمون الآن بالشأن السياسي في السودان يتحدثون عن تشكيلة قومية لإدارة دفة الحكم في البلاد التي شارفت على الغرق في لجة التفكير القاصر، وما المبادرة التي أطلقها د. غازي صلاح الدين العتباني إلا تأكيد من أهل الشأن والفكرة الصائبة لخروج البلاد من مأزق الفرقة والشتات. لقد أدرك د. غازي بمفهومه الفلسفي والسياسي أن المشاركة الفاعلة لكل القوى السياسية في البناء والوحدة حان أوانها، ولا بد من مواجهة الموقف بشجاعة حتى تنداح أمام هذا الشعب نوافذ العمل والإبداع التي ظلت مغلقة في وجهه سنين عدداً. وغازي رجل حكم ودولة، نأمل أن يكون له دور مفصلي في هذه الفترة من عمر السياسة السودانية، حتى الفيلسوف (أفلاطون) عندما وضع مخطط (جمهورية أفلاطون) في القرن الرابع عشر قبل الميلاد رفع الفلاسفة إلى قمة الهرم بعد اختبارات مضنية تؤكد مقدرة الفرد على الصمود وتفوقه العقلي في معالجة القضايا المصيرية التي نقف نحن الآن على حافتها، لذا فإن أي رأي أو اتجاه يرمي لتفتيت عزيمة الشعب وقطع الطريق بينه وبين الإئتلاف لن يصمد طويلاً، لأن القوة الفعلية أصبحت في قوة الإرادة، والتفكير المنطقي السليم، والإدارة الحكيمة للأمور، المؤتمر الوطني عليه أن يدرك مغبة الجناح الواحد الذي لا يعزز الانطلاق والتحليق عالياً فصناعة السياسات وصياغتها أضحت في عصرنا الحالي عالمية، والمواطنون أكثر اطلاعاً على العالم من وراء حدودهم القومية، فقد أصبحوا أكثر إدراكاً للتفاوت العالمي، وللفرص المتاحة ووسائل العيش، فأخبار المجتمع والسياسة والثقافة تنتقل بسرعة البرق في كل أرجاء المعمورة، وبالرغم من ذلك يتوق بعض السياسيين الحاذقين والحادبين على مصلحة الوطن لشراكة حقيقية مع كل الأحزاب في السلطة لتحقيق مبدأ القومية الذي انتظره الشعب سنيناً، عاقداً الأمل في تحقيق مراميه وأهدافه من خلاله، والدولة القومية الآن ليست كما هي قبل خمسين أو ستين عاماً فقد برزت للوجود منظمات شتى بأسماء عدة تشارك إيجابياً وسلبياً في تشكيل السياسة العالمية، وإدارة الاقتصاد الدولي. فمشاكل البطالة، وعدم التوازن في توزيع التنمية، والكساد والتضخم والكوارث هي مشاكل دولية أكثر منها قومية في أسبابها ونتائجها، إلا أننا إذا لم نستطع الإسهام في معالجة هذه الإشكالات محلياً فستكون هناك مبررات لإشعال الغضب في النفوس ونجلب بالتالي معاول الهدم من الخارج بواسطة هذه المنظمات الدولية التي تمنح وتحجب حسب رؤيتها في إدارة اللعبة عالمياً. تغير السياسات المجحفة يعنى إعادة النظر في مشكلة تدني مستوى المعيشة الذي ظل هاجساً يؤرق مضجع الكل بالرغم من ارتفاع معدلات النمو في بعض القطاعات الحيوية، وذلك نسبة لمركزية الرؤى حول ترتيبات محددة في الدولة، وإهمال الحيز الأكبر من المشروعات مما أدى إلى صناعة الفوارق الفاضحة في جسد المجتمع الواحد. توزيع تدفقات البترول النقدية على قطاعين مهمين كالزارعة والصناعة من شأنه أن يدفع بالاقتصاد السوداني خطوات واسعة نحو الأمام كي لا نغير بعض السياسات، والطامعون في ثرواتنا يتربصون بنا ويتوقعون منا غفوة عابرة يقتحمون خلالها صفوفنا ويعملون على بعثرتها هنا وهناك، والتشدق بهيكل السياسات القديمة التي لا تصلح حال المواطن تمثل غفوة من هذه الغفوات إذا لم ننتبه ونفتح القنوات التي يمكن أن تستوعب الكفاءات الناضجة في عملية التحول التاريخي للممارسة السياسية، التي تعمل على ضخ دماء جديدة في شريان السلطة التنفيذية وتقوم بعمليات إصلاحية مؤسسية كبيرة تعمل على رتق ما مزقته بعض الأيادي الضعيفة وبالأخص في الخدمة المدنية التي من خلالها ينتعش الاقتصاد ويتطور الإنسان، وتنهض الدولة. الأخلاق في العمل تمثل إحدى أكبر القواعد والأسس التي تعمل على ترسيخها الدول المتقدمة التي تسهم بفاعلية بتغذية جسم الدولة بالأفضل من الرجال والنساء على السواء، فعدم الكفاءة وتفشي المحسوبية والنظرة الذاتية، جميعها لا تجدي في عملية النهضة والكل يدرك أن هذه المساوئ تظل تنخر باستمرار في مفاصل الدولة وتؤدي لتحطيمها، والعالم تقدم من حولنا بفعل سياساته التي تواكب تطلعاته وآماله والعمل على تجديدها وتغييرها من حين لآخر. ألا يحتاج نظام التعليم لدينا الذي شابه كثير من الضعف والتقهقر بشهادة المختصين، لمراجعة فعلية تحقق التوازن في عملية التحصيل العلمي بين الطبقات الفقيرة والغنية؟ والدور الثقافية التي توقف الإنتاج الفكري والثقافي بها إلا قليلاً، والمقروء والمشاهد منه موغل في المحلية، لم يستنبط بعد قيمة التراث السوداني وتنوعه. أليس هذا الركود ينتظر سياسة جديدة مستنيرة تدرك معنى الدور الثقافي لبلد متعدد الأعراق والأعراف والتقاليد، وتقف في مداخله عاصفة الثقافات الوافدة التي عصفت بالمرتكزات الأساسية لحياتنا الاجتماعية.