في مدونة لفتاة إنكليزية، عثرت عليها مصادفة، ذكرت أنها قضت عاما كاملا متفرغة تماما للتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة، ليس بالسفر الفعلي إلى تلك الشعوب في أوطانها، ولكن بقراءة آدابها، حيث اختارت من كل بلد رواية أو روايتين، قرأتها وتعرفت من خلالها على ما يمكن العثور عليه في تلك الدولة، إن هي حصلت على تذكرة طيران وذهبت. تقول إن بضع ساعات من الانغماس في أي رواية من تلك الروايات، كانت كافية جدا، ليس لأخذ فكرة فقط، ولكن للحصول على المعنى كاملا. مثلا عرفت الكثير عن إسطنبول، من رواية لأورهان باموق، الذي يتخذ من تلك المدينة في الغالب مسرحا لتحرك نصه وشخوصه، عرفت عن ألبانيا من رواية لإسماعيل كداريه، وعن مصر من نص واحد لنجيب محفوظ، أظنه كان «زقاق المدق» أو «السكرية»، كذلك عرفت عن الصحراء من الكوني، وهكذا طافت العالم كله على أجنحة الرواية، وتؤكد أنها بعد عام من التفرغ لتلك الرحلة الورقية، لا تحتاج لتعرف المزيد. هذا الزخم القرائي الذي حدث لدى تلك الفتاة واسمها ج. غرونواي، وبهذا التهيج في ادعاء اكتساب المعرفة من نماذج لروايات انتقيت من كل قطر، قد يحتمل الصواب والخطأ معا، فالرواية في جزء مما تقدمه للناس، تقدم المعرفة، وكررنا ذلك كثيرا، وقلنا إن إمتاع القارئ، ومده بما قد لا يكون يعرفه، يمنح الرواية وظيفة حيوية، كأنها مرآة تعكس ما يدور في مجتمع ما، كأنها المجتمع نفسه، وفي الحقيقة هي مجتمع مواز، ينبض بين دفتي كتاب، ولطالما أمتعتنا بالفعل روايات محفوظ وإحسان عبد القدوس، وقادتنا في شوارع مصر وداخل بيوتها، زمانا قبل أن نرى مصر، ونجد شيئا من المصداقية، وأيضا شيئا من البهارات الإضافية المطلوبة، لتصبح الرواية نصا إبداعيا. أقول إن رحلة غرونواي، وهي بالتأكيد رحلة شاقة وغير اعتيادية، وتحتاج إلى صبر، وإبعاد للملل من أجل إكمال القراءة، والعمل وفق برنامج صارم ولا يحتمل غير أن يكون صارما، هذه الرحلة ستنتقي كما قلت أعمالا معينة، وليس كل الأعمال التي صدرت في بلد ما، وقد يكون الاختيار عشوائيا، أو بناء على توصيات ما، أو حسب شهرة الكاتب التي وصلت إلى مسامع الفتاة، بينما لم يصل صيت كاتب آخر، قد يكون نصه أكثر تجاوبا في منح المعنى المراد استخلاصه. أيضا قد يكون النص المنتقى، أو الذي تمت قراءته خاصا ببقعة معينة في وطن ما، مثلا يتحدث عن المدينة أو العاصمة فقط، وهناك أقاليم كثيرة متشعبة الثقافة، لم تتضح معالمها في النص، وأيضا ثقافات بديعة لم يتم التقاطها لأنها كتبت في نصوص أخرى إقليمية، وشديدة المحلية، فالقارى لنص مصري عظيم مثل «زقاق المدق» لنجيب محفوظ، يتعرف على حارة مصرية، في حي مزدحم، في مدينة كبرى، وقد يتقن المعرفة فعلا، لكنه سيفتقد زخما آخر، سجله محمد خليل قاسم، في روايته الوحيدة «الشمندورة» حيث تحدث عن عالم النوبة، وهو عالم حي متكامل، بتراثه وحضارته، وموجود في جنوب مصر، وسيفتقد تشعبات أخرى لأقلام مصرية، مثل قلم صبري موسى، الجميل، وقلم مستجاب الذي يختلف عالمه عن عالم أي كاتب آخر، حين يكتب عن الصعيد، بما خبره وحده. ولأن الريف المصري عالم حميم آخر، وقريب من معظم الكتاب هناك، سنجده موجودا ويحتاج لمعرفة أيضا. لن تكون موجودة في النموذج الذي تم اختياره من مصر. الفتاة اختارت من السودان روايتين هما «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، و»إيبولا 76»، التي كتبتها عن الهبة الأولى لفيروس إيبولا القاتل منتصف سبعينيات القرن الماضي. بالنسبة لموسم الهجرة فقصتها معروفة بالطبع، وعلى الرغم من أن بعض أحداثها دارت في الشمال السوداني، بعد أن استقر مصطفى سعيد في قرية لا يعرفها، وتزوج منها وانكشف شيء من غموضه بعد ذلك، إلا أنها ليست رواية الطيب الأمثل في التعرف بحميمية إلى المجتمع السوداني آنذاك، وحتى لو فرضنا أن القرية نموذج مصغر للمجتمع ككل، تبقى تلك التفاصيل الكثيرة التي لم يهتم النص بها، لأن الموضوع لا يشملها، وأعتقد أن «عرس الزين» أكثر التصاقا بالأرض، وثقافتها وأساطيرها في ذلك الوقت، وربما في أي وقت. بالنسبة ل»إيبولا 76» على الرغم من أنني كاتب تلك الرواية، إلا أنني أقول بصراحة، إنها ليست أيضا رواية كاشفة للمجتمع السوداني، في الحقيقة هي بعيدة عنه، نعم رواية إفريقية تتبع مأساة، ونتعرف من خلالها على جوانب من أجواء الجنوب، لكن لن تكون الرواية الأمثل للمعرفة الجادة بالمجتمع ككل، وتوجد روايات سودانية تمنح المعنى، أو الثقافة المطلوبة أكثر من رواية الأسى الإفريقي، ولعل كثيرا من الأعمال التي كتبها أدباء سودانيون، لو ترجمت لبذرت المعرفة المطلوبة، أو المراد تقصيها بواسطة آخرين، وأشير بصفة خاصة إلى كتابات علي المك وجمال محمد أحمد، وأتذكر بشيء من الفخر والجمال، مذكرات الشيخ بابكر بدري، التي أعتبرها أدبا رفيعا قام على الحقيقة وحدها، بغض النظر عن قيود المجتمع في الفترة التي تتحدث فيها النصوص، وربما حتى في الوقت الحالي. عموما، تقصي المعرفة عبر الأدب، وإن كان فيه بعض القصور كما ذكرت، يظل هو الباب الأكثر انفتاحا، الباب الذي لا يصد، ولا يحتاج لإمكانيات خاصة من أجل فتحه. لا توجد تذاكر للطيران داخل صفحات كتاب، ولا مصاريف إقامة داخلها، فقط يحتاج نقل الثقافات، إلى أن تنشط حركة الترجمة، نعم من أجل أن نقرأ عملا صينيا ضخما وفارقا مثل: «بجعات برية» نتعرف من خلاله على تلك البلاد العظيمة، كان لا بد أن تكون ثمة ترجمة عظيمة تنقله، وهذا ما حدث. الترجمة حتى لو وصفت بالخيانة، تظل هي الروح التي قد تمنح نصا حتى لو كان ميتا في لغته الأصلية، روحا جديدة.