في الخامسة من مساء الثلاثاء وصل العميد فايز كرم إلى بلدته اللبنانية “زغرتا"، بعد أن مرَّ بعدد من المحطات التي بدأت من باب السجن، من بينها بيت الجنرال ميشال عون، فيما أعد له مؤيدو وعناصر التيار الوطني الحر (بزعامة عون) استقبالا حافلا، تضمن حمله على الأكتاف والهتاف بحياته ونثر الأرز وإطلاق الألعاب النارية. لمن لا يعرفون فايز كرم، فهو من القادة الكبار في التيار العوني، ومن أقرب المقربين لميشال عون، وعمل رئيسا لفرع مكافحة التجسس في الجيش ما بين عامي 88 و 90. قبل عامين اكتشفت الأجهزة الأمنية اللبنانية صلات الرجل بالأجهزة الإسرائيلية التي بدأت منذ العام 1982، الأمر الذي لم يكن محض تهمة، بل ثبت بالوجه القاطع، لكن العلاقة الحميمة (المصلحية طبعا) بين حزب الله والتيار العوني هي التي أفضت للاكتفاء بالحكم على الرجل بالسجن لسنتين، وهي المدة التي لم يمضها الرجل كاملة، إذ استفاد من تخفيض السنة إلى تسعة شهور، فكان أن خرج بعد عام ونصف فقط لا غير. في تعليقه على الإفراج عن صاحبه، قال الجنرال ميشال عون “نفذ عقوبته (إقرار بأنه كان مذنبا) ومرّ من هنا وقلنا له “الحمد لله على سلامتك"، وأكمل طريقه الى منزله"، ورفض الجنرال بشدة الرد على أي سؤال قائلا “ما من أحد قادر على المزايدة علينا، لا في الشرف ولا في الكرامة"!! لا نستغرب أبدا موقف الجنرال ومؤيديه من عميدهم العظيم، فمثل هذه القوى التي تورطت حتى أذنيها في الحرب الأهلية والتطهير الطائفي لم تكن بعيدة عن الحضن الإسرائيلي، أكانت اليوم مصطفة ضمن تحالف 14 آذار أم تحالف 8 آذار، وهي تبعا لذلك لا ترى في وجود اتصالات بين أحد قادتها والعدو الإسرائيلي الكثير من الحرج، وربما لو رتب بعضها أولوياته في العداء لما كان الكيان الصهيوني عدوا معتبرا، من دون أن نعدم من بينها منْ يراه صديقا يمكن اللقاء معه في كثير من المحطات. ما يعنينا هنا هو موقف حزب الله من القضية، أكان في سياقها الأول يوم مرر الحزب ذلك الحكم المخفف على العميل “الكبير" من دون أدنى اعتراض، بل بتواطؤ واضح، أم في سياقها الثاني المتعلق بالسكوت على الاحتفال بالعميل “المحرر"، وتجاهل خبر الإفراج عنه. لا جدال في أن سبب موقف حزب الله إنما يتمثل في المحافظة على التحالف مع الجنرال عون، ذلك الذي يوفر للحزب فرصة الاحتفاظ بسلاحه، وبالتالي استمرار السيطرة على البلد، وتبعا لذلك تهميش السنة على النحو الذي نتابعه منذ سنوات. ومن احتل بيروت خلال ساعات قليلة إنما كان يوجه إهانة بالغة للسنة الذين يشكلون عماد التوازن في لبنان، الأمر الذي يأتي كجزء من غرور القوة الذي تلبس إيران وحلفاءها في المنطقة، وما هيمنة الأخيرة على العراق سوى تأكيد على ذلك، فضلا عن التهميش الذي يمارسه حليفها المالكي بحق العرب السنة. ماذا يتبقى من شعارات المقاومة والممانعة حين يقبل حزب الله الحكم على عميل كبير ضالع في العمالة تسبب بسقوط جحافل من الضحايا في السجن لسنتين (أصبحت سنة ونصف السنة)، وماذا يتبقى من تلك الشعارات حين يصمت صمت القبور على ذلك الاستقبال الحافل الذي حظي به “العميل المحرر"؟! هي السياسة وتناقضاتها، ولا قيمة بعد ذلك لمطالبة حزب الله الشعب السوري بالبقاء تحت بسطار بشار الأسد تكرما لعيون المقاومة والممانعة ما دامت الأخيرة لا ترى بأسا بالاحتفال بعميل ضالع في العمالة. لن يتحدث السيد نصر الله عن ذلك في خطابه القادم (القريب بالطبع)، لاسيما بعد أن أدمن الخطابة منذ اندلاع الثورة السورية، وصار يخرج علينا كل حين لكي يبشر بضرورة الحل السياسي، ولكي يؤكد عمق المؤامرة التي يتعرض لها نظام المقاومة والممانعة في دمشق، فضلا عن التأكيد على فشل الحل العسكري كما فعل في خطابه الأخير. حين نتحدث عن حزب الله وما يقترفه بحق الشعب السوري، وبحق المبادئ التي يعلن الانحياز إليها، وفي مقدمتها مبدأ الحسين الشهيد، الذي ثار على يزيد رفضا للظلم والفساد، رغم أن يزيدا كان يواجه أعداء الأمة، فإننا لا ننكر البتة تاريخ الحزب المشرف بمقارعة العدو الصهيوني، لكن الأعمال بخواتيمها كما يعلم السيد وأصحابه، والخاتمة اليوم تتمثل بذلك الاصطفاف المذهبي، والذي يعكس قصر نظر واضح، لأن خسارة الغالبية الساحقة من الأمة، ممثلة بعنوانها وحاضنتها السنية، هي الخسارة الحقيقية، ووقد وقعت وانتهى الأمر، لاسيما أن إصلاحا للخطأ لا يلوح في الأفق بما يمنحنا الأمل، بقدر ما نرى مزيدا من الإصرار عليه.